آ . (107) وقوله تعالى : خالدين : منصوب على الحال المقدرة . قلت : ولا حاجة إلى قولهم مقدرة ، وإنما احتاجوا إلى التقدير في مثل قوله فادخلوها خالدين ؛ لأن الخلود بعد الدخول ، بخلاف هنا .
قوله : ما دامت " ما " مصدرية وقتية ، أي : مدة دوامهما . و " دام " هنا تامة لأنها بمعنى بقيت .
قوله : إلا ما شاء ربك فيه أقوال كثيرة منتشرة لخصتها في أربعة عشر وجها ، أحدها : وهو الذي ذكره فإنه قال : " فإن قلت : ما معنى الاستثناء في قوله : الزمخشري إلا ما شاء ربك وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الأبد من غير استثناء ؟ قلت : هو استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة ، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذابها وحده ، بل يعذبون بالزمهرير ، وبأنواع أخر من العذاب ، وبما هو أشد من ذلك وهو سخط الله عليهم ، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكبر منه كقوله : ورضوان من الله أكبر ، والدليل عليه قوله : عطاء غير مجذوذ : ، وفي مقابله إن ربك فعال لما يريد ، أي : يفعل بهم ما يريد [ ص: 392 ] من العذاب ، كما يعطي أهل الجنة ما لا انقطاع له " . قال الشيخ : " ما ذكره في أهل النار قد يتمشى لأنهم يخرجون من النار إلى الزمهرير فيصح الاستثناء ، وأما أهل الجنة فلا يخرجون من الجنة فلا يصح فيهم الاستثناء " . قلت : الظاهر أنه لا يصح فيهما ؛ لأن أهل النار مع كونهم يعذبون بالزمهرير هم في النار أيضا .
الثاني : أنه استثناء من الزمان الدال عليه قوله : " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " والمعنى : إلا الزمان الذي شاءه الله فلا يخلدون فيها .
الثالث : أنه من قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ، أي : إلا الزمان الذي شاءه الله فلا يكون في النار ولا في الجنة ، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناء من الكون في النار أو في الجنة ، لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار والجنة ، وأما إن كان الاستثناء من الخلود يمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار ، ويكون الزمان المستثنى هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذي يخرجون من النار ويدخلون الجنة فليسوا خالدين في النار ، إذ قد أخرجوا منها وصاروا إلى الجنة . وهذا المعنى مروي عن قتادة وغيرهما ، والذين شقوا على هذا شامل للكفار والعصاة ، هذا في طرف الأشقياء العصاة ممكن ، وأما حق الطرف الآخر فلا يتأتى هذا التأويل فيه ؛ إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها . والضحاك
قال الشيخ : يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين ، أو الذي فات أصحاب الأعراف ، فإنه بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة [ ص: 393 ] المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة " .
الرابع : أنه استثناء من الضمير المستتر في الجار والمجرور وهو قوله : " ففي النار " و " ففي الجنة " ؛ لأنه لما وقع خبرا تحمل ضمير المبتدأ .
الخامس : أنه استثناء من الضمير المستتر في الحال وهو " خالدين " ، وعلى هذين القولين تكون " ما " واقعة على من يعقل عند من يرى ذلك ، أو على أنواع من يعقل كقوله : ما طاب لكم من النساء والمراد بـ " ما " حينئذ العصاة من المؤمنين في طرف أهل النار ، وأما في طرف أهل الجنة فيجوز أن يكونوا هم أو أصحاب الأعراف ، لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أولا .
السادس : قال : " قيل : إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشارع إلى استعماله في كل كلام فهو كقوله : ابن عطية لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ، استثناء في واجب ، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط ، كأنه قال : إن شاء الله ، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع " .
السابع : هو استثناء من طول المدة ، ويروى عن وغيره ، أن جهنم تخلو من الناس وتخفق أبوابها فذلك قوله : ابن مسعود إلا ما شاء ربك . وهذا مردود بظواهر الكتاب والسنة ، وما ذكرته عن فتأويله أن جهنم هي الدرك الأعلى ، وهي تخلو من العصاة المؤمنين ، هذا على تقدير صحة ما نقل عن ابن مسعود . ابن مسعود
[ ص: 394 ] الثامن : أن " إلا " حرف عطف بمعنى الواو ، فمعنى الآية : وما شاء ربك زائدا على ذلك .
التاسع : أن الاستثناء منقطع ، فيقدر ب " لكن " أو ب " سوى " ، ونظروه بقولك : " لي عليك ألفا درهم ، إلا الألف التي كنت أسلفتك " بمعنى سوى تلك ، فكأنه قيل : خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض سوى ما شاء ربك زائدا على ذلك . وقيل : سوى ما أعد لهم من عذاب غير عذاب النار كالزمهرير ونحوه .
العاشر : أنه استثناء من مدة السماوات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا .
الحادي عشر : أنه استثناء من التدرج الذي بين الدنيا والآخرة .
الثاني عشر : أنه استثناء من المسافات التي بينهم في دخول النار ، إذ دخولهم إنما هو زمرا بعد زمر .
الثالث عشر : أنه استثناء من قوله : " ففي النار " كأنه قال : إلا ما شاء ربك من تأخر قوم عن ذلك ، وهذا القول مروي عن أبي سعيد الخدري وجابر .
الرابع عشر : أن " إلا ما شاء " بمنزلة كما شاء ، قيل : كقوله : ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف ، أي : كما قد سلف .