ولما تقدم في آخر القيامة التهديد على مطلق التكذيب، وأن [ ص: 121 ] المرجع إلى الله وحده، والإنكار على من ظن أنه يترك سدى والاستدلال على البعث وتمام القدرة [عليه-] ، تلاه أول هذه بالاستفهام الإنكاري على ما يقطع معه بأن لا يترك سدى، فقال مفصلا ما له سبحانه عليه من نعمة الإيجاد والإعداد والإمداد والإسعاد: هل أتى أي بوجه من الوجوه على الإنسان أي هذا النوع الذي شغله عما يراد به ويراد له لعظم مقداره في نفس الأمر الأنس بنفسه والإعجاب بظاهر حسه والنسيان لما بعد حلول رمسه حين من الدهر أي مقدار محدود وإن قل من الزمان الممتد الغير المحدود حال كونه لم يكن أي في ذلك الحين كونا راسخا شيئا مذكورا أي ذكرا له اعتبار ظاهر في الملأ الأعلى وغيره حتى أنه يكون متهاونا به غير منظور إليه ليجوز أن يكون سدى بلا أمر ونهي، ثم يذهب [عدما -] ليس الأمر كذلك، بل ما أتى عليه شيء من ذلك بعد خلقه إلا وهو فيه شيء مذكور، وذلك أن الدهر هو الزمان، والزمان هو مقدار حركة الفلك - كما نقله الرازي في [كتاب -] اللوامع في سورة "يس" عند قوله تعالى ولا الليل سابق النهار فإنه قال: الزمان ابتداؤه من حركات السماء فإن الزمان مقدار حركات الفلك انتهى.
وآدم عليه السلام تم الخلق بتمام خلقه في آخر يوم الجمعة أول جمعة [ ص: 122 ] كانت، وكانت [طينته -] قبل ذلك بمدة مخمرة هو فيها بين الروح والجسد، قال رضي الله عنه: خلق الله آدم عليه السلام من تراب فأقام أربعين سنة ثم من طين أربعين سنة ثم من صلصال أربعين سنة ثم من حمإ [مسنون -] أربعين سنة ثم خلقه بعد ستين ومائة سنة، [ وقال ابن مسعود قال البغوي: رضي الله عنهما: ثم خلقه بعد عشرين ومائة سنة -] : فحينئذ ما أتى عليه زمان إلا وهو شيء مذكور إما بالتخمير وإما بتمام التصوير، فالاستفهام على بابه وهو إنكاري، وليست "هل" بمعنى "قد" إلا إن قدرت قبلها الهمزة، وكان الاستفهام إنكاريا لينتفي مضمون الكلام، والمراد أنه هو المراد من العالم، فحينئذ ما خلق الزمان إلا لأجله، فهو أشرف الخلائق، وهذا أدل دليل على بعثه للجزاء، فهل يجوز مع ذلك أن يترك سدى فيفنى المظروف الذي هو المقصود بالذات، ويبقى الظرف الذي ما خلق إلا صوانا له، والذي يدل على ذلك من أقوال السلف أنه روي أن رجلا قرأها عند ابن عباس رضي الله عنه فقال: يا ليت ذلك لم يكن. ابن مسعود
[ ص: 123 ] وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : قوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا تعريف الإنسان بحاله وابتداء أمره ليعلم أن لا طريق له للكبر واعتقاد السيادة لنفسه، وأن لا يغلطه ما اكتنفه من الألطاف الربانية والاعتناء الإلهي والتكرمة فيعتقد أنه يستوجب ذلك ويستحقه وما بكم من نعمة فمن الله ولما تقدم في القيامة إخباره تعالى عن حال منكري البعث عنادا واستكبارا وتعاميا عن النظر والاعتبار أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه وقوله بعد فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى أي يتبختر عتوا واستكبارا ومرحا وتجبرا، وتعريفه بحاله التي لو فكر فيها لما كان منه ما وصف، [و -] ذلك قوله ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى أتبع ذلك بما هو أعرق في التوبيخ وأوغل في التعريف وهو أنه [قد -] كان لا شيء فلا نطفة ولا علقة، ثم فتبارك الله أحسن الخالقين، فمن اعتبر اتصافه بالعدم ثم تقلبه في هذه الأطوار المستنكف حالها والواضح [ ص: 124 ] فناؤها واضمحلالها، وأمده الله تعالى بتوفيقه عرف حرمان من وصف في قوله: أنعم الله عليه بنعمة الإيجاد ونقله تعالى من طور إلى طور فجعله نطفة من ماء مهين في قرار مكين ثم كان علقة ثم مضغة إلى إخراجه وتسويته خلقا آخر ثم ذهب إلى أهله يتمطى فسبحان الله ما أعظم حلمه وكرمه ورفقه، [ثم -] بين تعالى ما جعله للإنسان من السمع والبصر ابتلاء له، ومن أدركه أدركه الغلط وارتكب الشطط - انتهى.