يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه وقرئ : ( يرتدد ) بالفك على لغة الحجاز ، والإدغام لغة تميم . لما نهي فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى ، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين ، وفصل مصير أمر من يواليهم من المنافقين ، شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق ، وهذا من الكائنات التي أخبر [ ص: 51 ] عنها القرآن قبل وقوعها .
روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام : بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار ، وهو الأسود العنسي ، كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده ، فأخرج منها عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فكتب عليه الصلاة والسلام إلى وإلى سادات معاذ بن جبل اليمن ، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل ; فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد ، وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .
وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ، تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله : أما بعد ، فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ; فأجاب عليه الصلاة والسلام : " محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب : أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " ; فحاربه من رضي الله عنه بجنود المسلمين ، وقتل على يدي أبو بكر وحشي قاتل رضي الله عنه ، وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس ، وفي إسلامي شر الناس . حمزة
وبنو أسد قوم ، تنبأ ، فبعث إليه طليحة بن خويلد رضي الله عنه أبو بكر ، فانهزم بعد القتال إلى خالد بن الوليد الشام ، فأسلم وحسن إسلامه .
وسبع في عهد رضي الله عنه : أبي بكر فزارة قوم عيينة بن حصن ، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة ابن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوجت نفسها من مسيلمة الكذاب ، وفيها يقول في كتاب " استغفر واستغفري " : أبو العلاء المعري
آمت سجاح ووالاها مسيلمة ... كذابة في بني الدنيا وكذاب
وكندة قوم ، الأشعث بن قيس وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد ، وكفى الله تعالى أمرهم على يد رضي الله عنه . أبي بكر
وفرقة واحدة في عهد رضي الله عنه : عمر غسان قوم ، نصرته اللطمة وسيرته إلى بلاد جبلة بن الأيهم الروم ، وقصته مشهورة .
وقوله تعالى : فسوف يأتي الله جواب الشرط ، والعائد إلى اسم الشرط محذوف ; أي : فسوف يأتي الله مكانهم بعد إهلاكهم .
بقوم يحبهم ; أي : يريد بهم خيري الدنيا والآخرة ، ومحل الجملة الجر على أنها صفة لقوم .
وقوله تعالى : ويحبونه ; أي : يريدون طاعته ويتحرزون عن معاصيه ، معطوف عليها داخل في حكمها . قيل : هم أهل اليمن ; لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى وقال : " قوم هذا " . وقيل : هم أبي موسى الأشعري الأنصار رضي الله عنهم . وقيل : هم الفرس ; لما روي رضي الله عنه ، وقال : " هذا وذووه " ، ثم قال : " لو كان الإيمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء سلمان فارس " . وقيل : هم ألفان من النخع ، وخمسة آلاف من كندة ، وثلاثة آلاف من أفناء الناس ، جاهدوا يوم أنه عليه السلام سئل عنهم ، فضرب بيده الكريمة على عاتق القادسية .
أذلة على المؤمنين جمع ذليل لا ذلول ، فإن جمعه : ذلل ; أي : أرقاء رحماء متذللين ومتواضعين لهم ، واستعماله بـ" على " إما لتضمين معنى العطف والحنو ، أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم .
أو لرعاية المقابلة بينه وبين ما في قوله تعالى : أعزة على الكافرين ; أي : أشداء متغلبين عليهم ، من عزه : إذا غلبه ، كما في قوله عز وعلا : أشداء على الكفار رحماء بينهم ، وهما صفتان أخريان لقوم ترك بينها العاطف للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما ، وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة من الجملة والظرف ، كما في قوله تعالى : وهذا كتاب أنزلناه مبارك ، وقوله تعالى : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ، وقوله تعالى : [ ص: 52 ] وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث .
وما ذهب إليه من لا يجوزه من أن قوله تعالى : " يحبهم ويحبونه " كلام معترض ، وأن " مبارك " خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف ، وأن " من ربهم " و" من الرحمن " حالان مقدمتان من ضمير محدث تكلف لا يخفى . وقرئ : ( أذلة ) ، ( أعزة ) بالنصب على الحالية من " قوم " لتخصصه بالصفة .
يجاهدون في سبيل الله صفة أخرى لقوم ، مترتبة على ما قبلها ، مبنية مع ما بعدها لكيفية عزتهم ، أو حال من الضمير في " أعزة " .
ولا يخافون لومة لائم عطف على " يجاهدون " ، بمعنى : أنهم جامعون بين المجاهدة في سبيل الله وبين التصلب في الدين . وفيه تعريض بالمنافقين ، فإنهم كانوا إذا خرجوا في جيش المسلمين خافوا أولياءهم اليهود ، فلا يكادون يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم . وقيل : هو حال من فاعل " يجاهدون " ، بمعنى : أنهم يجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين ، واعتراض عليه بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي بلا أو ما ، كالمثبت في عدم جواز مباشرة واو الحال له . واللومة : المرة من اللوم ، وفيها وفي تنكير لائم مبالغة لا تخفى .
ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف الجليلة ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتها في الفضل .
فضل الله ; أي : لطفه وإحسانه ، لا أنهم مستقلون في الاتصاف بها .
يؤتيه من يشاء إيتاءه إياه ، ويوفقه لكسبه وتحصيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة .
والله واسع كثير الفواضل والألطاف .
عليم مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل للفضل والتوفيق . والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية .