ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين
ويقول الذين آمنوا كلام مبتدأ مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة . وقرئ بغير واو على أنه جواب سؤال نشأ مما سبق ، كأنه قيل : فماذا يقول المؤمنون حينئذ . وقرئ : ( ويقول ) بالنصب عطفا على " يصبحوا " . وقيل : على " يأتي " باعتبار المعنى ، كأنه قيل : فعسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا . والأول أوجه ; لأن هذا القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين ، لا عند إتيان الفتح فقط ، والمعنى : ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود ، مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ، ويرجون دولتهم ، ويظهرون لهم غاية المحبة ، وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء ، عند مشاهدتهم لخيبة رجائهم ، وانعكاس تقديرهم بوقوع ضد ما كانوا يترقبونه ، ويتعللون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم . [ ص: 50 ]
أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم ; أي : بالنصرة والمعونة ، كما قالوا فيما حكي عنهم : وإن قوتلتم لننصرنكم . واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره ، والمعنى : إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك ، أو يقول بعض المؤمنين لبعض مشيرين إلى المنافقين أيضا : أهؤلاء الذين أقسموا للكفرة إنهم لمعكم ; فالخطاب في " معكم " لليهود على التقديرين ، إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين ، وعلى الثاني من جهة المقسمين . وهذه الجملة لا محل لها من الإعراب ; لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا ، لكن لا بألفاظهم ، وإلا لقيل : إنا معكم . وجهد الأيمان : أغلظها ، وهو في الأصل مصدر ، ونصبه على الحال على تقدير : وأقسموا بالله يجهدون جهد أيمانهم ; فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه ، ولا يبالى بتعريفه لفظا ; لأنه مؤول بنكرة ; أي : مجتهدين في أيمانهم ، أو على المصدر ; أي : أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين .
وقوله تعالى : حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين إما جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى ; لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية ، والإقسام على المعية في المنشط والمكره ، إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام الإنكاري . وإما خبر ثان للمبتدإ عند من يجوز كونه جملة ، كما في قوله تعالى : فإذا هي حية تسعى . أو هو الخبر ، والموصول مع ما في حيز صلته صفة لاسم الإشارة ، فالاستفهام حينئذ للتقرير ، وفيه معنى التعجب ، كأنه قيل : ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم ، والمعنى : بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم ، وسعوا في ذلك سعيا بليغا ، حيث لم تكن لكم دولة فينتفعوا بما صنعوا من المساعي ، وتحملوا من مكابدة المشاق ، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى .
وقيل : قاله بعض المؤمنين مخاطبا لبعض ; تعجبا من سوء حال المنافقين ، واغتباطا بما من الله تعالى على أنفسهم من التوفيق للإخلاص : أهؤلاء الذين أقسموا لكم بإغلاظ الأيمان أنهم أولياؤكم ، ومعاضدوكم على الكفار ، بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس . وأنت خبير بأن ذلك الكلام من المؤمنين إنما يليق بما لو أظهر المنافقون حينئذ خلاف ما كانوا يدعونه ، ويقسمون عليه من ولاية المؤمنين ، ومعاضدتهم على الكفار ، فظهر كذبهم وافتضحوا بذلك على رءوس الأشهاد ، وبطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين المؤمنين ، ولا ريب في أنهم يومئذ أشد ادعاء ، وأكثر إقساما منهم قبل ذلك فضلا عن أن يظهروا خلاف ذلك ، وإنما الذي يظهر منهم الندامة على ما صنعوا ، وليس ذلك علامة ظاهرة الدلالة على كفرهم وكذبهم في ادعائهم ; فإنهم يدعون أن ليست ندامتهم إلا على ما أظهروه من موالاة الكفرة خشية إصابة الدائرة .