وقوله تعالى : فترى الذين في قلوبهم مرض بيان لكيفية توليهم وإشعار بسببه ، وبما يئول إليه أمرهم ، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية ، والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين ، وإما لكل أحد ممن له أهلية له ، وفيه مزيد تشنيع للتشنيع ; أي : لا يهديهم بل يذرهم وشأنهم فتراهم ... إلخ . وإنما وضع موضع الضمير الموصول ; ليشار بما في حيز صلته إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما في قلوبهم من مرض النفاق ، ورخاوة العقد في الدين .
وقوله تعالى : يسارعون فيهم حال من الموصول والرؤية بصرية ، وقيل : مفعول ثان والرؤية قلبية ، والأول هو الأنسب بظهور نفاقهم ; أي : تراهم مسارعين في موالاتهم ، وإنما قيل : " فيهم " ، مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها . وإيثار كلمة " في " على كلمة " إلى " للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة ، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها ، كما في قوله تعالى : أولئك يسارعون في الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها ، كما في قوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة .
وقرئ : ( فيري ) بياء الغيبة على أن الضمير لله سبحانه . وقيل : لمن تصح منه الرؤية . وقيل : الفاعل هو الموصول والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية والرؤية قلبية ; أي : ويرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم ; فلما حذفت أن [ ص: 49 ] انقلب الفعل مرفوعا ، كما في قول من قال :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
والمراد بهم : عبد الله بن أبي وأضرابه الذين كانوا يسارعون في موادة اليهود ونصارى نجران ، وكانوا يعتذرون إلى المؤمنين بأنهم لا يأمنون أن تصيبهم صروف الزمان .
وذلك قوله تعالى : يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة وهو حال من ضمير " يسارعون " ، والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها ; أي : تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ، ودولة من دوله بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار . وقيل : نخشى أن يصيبنا مكروه من مكاره الدهر ، كالجدب والقحط ، فلا يعطونا الميرة والقرض .
روي أن رضي الله تعالى عنه ، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم ، وأوالي الله ورسوله ، فقال عبادة بن الصامت عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي وهم يهود بني قينقاع ، ولعله يظهر للمؤمنين أنه يريد بالدوائر المعنى الأخير ، ويضمر في نفسه المعنى الأول .
وقوله تعالى : فعسى الله أن يأتي بالفتح رد من جهة الله تعالى لعللهم الباطلة ، وقطع لأطماعهم الفارغة ، وتبشير للمؤمنين بالظفر ، فإن " عسى " منه سبحانه وعد محتوم ، لما أن الكريم إذا أطمع أطعم لا محالة ، فما ظنك بأكرم الأكرمين . و" أن " يأتي في محل النصب على أنه خبر " عسى " ، وهو رأي ، أو على أنه مفعول به ، وهو رأي الأخفش ; لئلا يلزم الإخبار عن الجثة بالحدث ، كما في قولك : عسى زيد أن يقوم . والمراد بالفتح : فتح سيبويه مكة ، قاله الكلبي . وقال والسدي : فتح قرى اليهود من الضحاك خيبر وفدك . وقال قتادة : هو القضاء الفصل بنصره صلى الله عليه وسلم على من خالفه وإعزاز الدين . ومقاتل
أو أمر من عنده بقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء .
فيصبحوا ; أي : أولئك المنافقون المتعللون بما ذكر ، وهو عطف على " يأتي " داخل معه في حيز خبر عسى ، وإن لم يكن فيه ضمير يعود إلى اسمها ، فإن فاء السببية مغنية عن ذلك ، فإنها تجعل الجملتين جملة واحدة .
على ما أسروا في أنفسهم نادمين وهو ما كانوا يكتمونه في أنفسهم من الكفر ، والشك في أمره صلى الله عليه وسلم ، وتعليق الندامة به ، لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفر ، لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها ، فدل ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها .