خاتمة
نسأل الله حسنها وزيادة
إن ثمة علاقة قوية بين الأرض المقدسة -فلسطين- والمغاربة؛ إذ شدت قلوبهم إليها في وقت مبكر لما اتصفت به هذه الأرض المباركة من قدسية وطهارة، بوجود المسجد الأقصى في ربوعها؛ ولأنه مما تشد الرحال إليه، ولفضل الصلاة فيه ومضاعفتها، ولأن العثرات تقال به، ولأنها معدن الأنبياء ومرقد العديد منهم، وكذا فإنها أرض المنشر والمحشر.
وقـد رحـل إليها مغـاربة كثر من أجـل الجوار كالإمام الطرطوشي وسيدي صالح حرازم، والمقري التلمسـاني، كما رحل إليهـا ثلة من العلماء؛ من أجل استكشافها رحلة علمية كابن بطـوطة، وأبي سالم العياشي، ومحمد ابن عبد الوهاب المكناسي.
وقد كان للمغاربة دور في الحروب الصليبية المتتالية على فلسطين والقدس؛ بسبب فتح الأندلس وشغل النصارى داخل الأندلس عن المشاركة في تأييد الحملات الصليبية بالمشرق العربي، وصد حملاتهم وإحداث انتصارات عليهم كمعركة الزلاقة، التي صدتهم عن الالتفات إلى الأرض المقدسة؛ وذلك طوال العصر المرابطي على عهدي يوسف بن تاشفين وابنه علي بن يوسف، [ ص: 199 ] والعصر الموحدي على عهد عبد المؤمن بن علي الكومي ويعقوب المنصور الموحدي، والعصر المريني ولاسيما على عهد أبي الحسن المريني.
هذا وقد رحل المغاربة إلى هذه الأرض واستقروا بها؛ للذود عن حماها على إثر دعوة من صلاح الدين الأيوبي حين استغاث بالموحدين بالمغرب؛ فكان المغرب حاضرا بأسطوله الزاخر، وجنوده البواسل، فكانت لهم مكانة لدى السلطان صلاح الدين، وتمت مكافأتهم بأوقاف خاصة اشتهرت تباعا بحارة المغاربة.
وقد استقر بعض المغاربة بفلسطين؛ لأداء مهام إدارية وقضائية، كعيسى بن محمد المغربي الشخمي الملقب بشمس الدين، وحميد الدين محمد بدر الدين المعروف بابن المغربي، ولعل آخر القضاة المغاربة في مدينة القدس العلامة الغرناطي شمس الدين محمد بن علي الأزرق المغربي الأندلسي المالكي..
وقد دل التشابه المعماري بين القدس والمغرب على التلاقح الحضاري ودور الحرفيين المغاربة في النقش والبناء والحفاظ على الهوية الإسلامية بالقدس.
شكلت الأوقاف في فلسطين نحو مليون و680 ألف دونم (6.25 % من مساحة فلسطين)، وتوجد بها 340 قرية تعتبر وقفا كليا أو جزئيا مثل بورين وبيت فوريك وشطا، وسعسع وغيرها من الأوقاف الإسلامية. وكان من أوقاف المغاربة المشتهرة المعروفة بحارة المغاربة، التي تنسب للمغاربة، الذين وصلوا من الأندلس وشمال إفريقيا في زمن صلاح الدين الأيوبي، وكانت من أشهر الحارات الموجودة في البلدة القديمة بالقدس الشريف، وكانت هذه الحارة [ ص: 200 ] بالكامل وقفا من الملك "الأفضل علي" بن السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي بعد تحرير المدينة من الصليبيين، حيث أوقفها بأكملها على المجاهدين المغاربة، الذين شاركوا في الفتح وبقيت باسمهم، وقرر أن مدخول جميع هذا الوقف يوزع على عامة المغاربة؛ وباتت تعرف بحارة المغاربة.
وللحفاظ على استدامتها اشتروا كل العقارات المجاورة، وكان فيه اهتمام مغربي رسمي وشعبي بشراء الأملاك في القدس حسب قاعدة (الوقف)، وشمل ذلك العقارات المبنية، والعقارات غير المبنية، تماما كما حدث مع قرية (عين كارم) الموقوفة بكاملها من طرف الشيخ أبي مدين الغوث.
والزاوية المغربية للشيخ عمر المصمودي، ووقف المدرسة الأفضلية كانت تقع على بعد خمسة وسبعين مترا إلى الغرب من المسجد الأقصى المبارك؛ أوقفها "الملك الأفضل نور الدين علي أبو الحسن" وهو ابن السلطان الناصر صلاح الدين يوسف الأيوبي. وأوقاف السلطان المريني بشراء العقارات، وكذا المصحف المريني المعروف بالربعة المغربية.
وقد أوقف السلطان المولى عبد الله بضعة وعشرين مصحفا بخطوط جميلة، كان منها ما نال ثالث الحرمين. ووقف مقام ومسجد الشيخ عيد، ودار مجير الدين عبد الرحمن العليمي، ودار القبو الروماني، ويعرف بوقف فاطمة بنت محمد، ودار وقف الحاج قاسم الشيباني المراكشي، وأوقاف أخرى مثل وقفية الحاجة صافية بنت عبد الله وحاكورة الزيتون وحاكورة الجورة، ودار الرمانة، وطاحونة وقف المغاربة، ودار وقف كمال الحلواني، ووقف المغاربة، [ ص: 201 ] ودار وقف القاضي شرف الدين الخالدي، وحاكورة وقف المغاربة، ودار الشيخ صنع الله الخالدي، وحـاكورة اللوند، وحـاكورة ابن غزال، والحـاكورة الغربية، وحـاكورة وقـف أبو مدين، وحاكورة وقف المغاربة، لصق مقام الشيخ عيد.. إلخ.
لقد تعرضت الأوقاف الفلسطينية عامة والمغربية خاصة لإحن ومحن وتحديات منها استيلاء اليهود على معظم الأوقاف بأراضي 1948م؛ بحجة أنها أملاك غائبين! ومصادرة معظم المسجد الإبراهيمي، والاستيلاء على حائط البراق، وتصرف اليهود -بكل وقاحة- ببناء فندق "بلازا" الفخم على مقبرة (مأمن الله) في القدس، بل فتحت بها شوارع وحول القسم المتبقي منها إلى حدائق عامة. وفي شهر يونيو 1967م، صادر الكيان الصهيوني حي المغاربة، وفي اليوم العاشر من نفس الشهر قامت قوات الاحتلال بإخلاء سكانه لتسويه بالأرض ولتقيم مكانه ساحة عمومية تكون قبالة حائط البراق. خلال بضعة أيام، أتت جرافات العدو على 138 بناية، كما هدمت جامع البراق وجامع المغاربة. وما لبث أن لحق نفس المصير بالمدرسة الأفضلية وزاوية أبي مدين والزاوية الفخرية ومقام الشيخ. وإن الانقسام الداخلي بأرض فلسطين زاد الطين بلة، والله المستعان! [ ص: 202 ]