المبحث الأول
مفهوم البعد المصدري للنص
النص الشرعي كغيره من النصوص له أربعة مكونات، وهذه المكونات أمر لا بد منه في كل رسالة اتصالية، واختلال مكون واحد أو أكثر منها؛ يؤثر سلبا على أصل الرسالة وحقيقتها بالنقص أو بالنقض.
وهذه المكونات هـي: المكون الأول: لغة النص، أو الرسالة الاتصالية النص الشرعي يتألف من ألفاظ، وهذه الألفاظ وردت بلغة معينة، وهي اللغة العربية،
قال تعالى: ( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) (يوسف:2) ،
وقال تعالى: ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) (الشعراء:193-195) .
وهذه اللغة لها خصائصها وقوانينها التي تميزها عن غيرها من اللغات، وهذا يعني أن تفهم النص الشرعي فهما أمينا وسالما في غالب الأحيان أصبح مرهونا بفهم اللغة العربية وقوانينها النحوية والصرفية والبلاغية، وانطلاقا من هـذه الحقيقة لم يكن فهم الوحي مستعصيا على العرب الأوائل، لأنه كان على معهودهم في التخاطب، وهذا ما أكد عليه الإمام الشافعي [1] . [ ص: 40 ] وقد نبه الإمام الشاطبي على أهمية معرفة أساليب العرب في الخطاب، حيث قال: «إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربي، وإنه لا عجمة فيه، بمعنى أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها، تخاطب بالعام يراد به ظاهره، وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به الخاص، والظاهر يراد به غير الظاهر، وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة، وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة، والأشياء الكثيرة باسم واحد، وكل هـذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هـي، ولا من تعلق بعلم كلامها» [2] .
وقال أيضا: «فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثمة عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه العرب...ولا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن والسنة من معرفة عادات العرب في أقوالها ومجاري عاداتها، حال التنزيل من عند الله والبيان من رسوله (، لأن الجهل بها موقع في الإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة» [3] . [ ص: 41 ] وما قلناه في النص الشرعي نقوله في كل رسالة اتصالية سواء بسواء، فكيف يفهم النص الذي كتب باللغة الفرنسية مثلا إذا لم يكن المتصدر لفهمه مستوعبا قوانين هـذه اللغة وخصائصها. المكون الثاني: مصدر النص، أو الجهة المصدرة للرسالة (صاحب النص) المراد من مصدر النص المخاطب (المتكلم) بالخطاب، وهو المكون الأساس من مكونات الخطاب، ضرورة وجود مخاطب وراء كل خطاب، فلا يمكن بحال من الأحوال صدور خطاب من غير مخاطب، إذ لكل قول قائل، ولكل فعل فاعل. المكون الثالث: مضمون النص ومحتواه إذا كانت هـناك مجموعة من الألفاظ المركبة بعضها مع بعض، وصادرة من جهة معينة؛ فهذا يعني أن لهذا النص مضمونا، وبقدر ما عليه صاحبه من علم ورشد وصفات حميدة؛ يكون للنص القدر والمنزلة، وأن النص التام الحمال لهذه الصفات يشتمل حتما على فائدة أو فوائد، وبعبارة أهل اللغة يفيد إفادة يحسن السكوت عليه، وإن لم يفد شيئا فلا يعد نصا مقصودا، أو رسالة اتصالية، بل يدخل في خانة المهملات والمتروكات، ولا يلتفت إليه، ويخرج قائله من زمرة الراشدين أو الواعين. [ ص: 42 ]
المكون الرابع: الجهة المستهدفة وراء النص فإذا حمل النص بين دفتيه فائدة ما؛ فيستوجب ذلك توجيهها إلى جهة أخرى معنية. والخطاب الشرعي كله من غير استثناء لم يأت عبثا وسدى، بل استهدف الإنسان إجمالا وما زال يستهدفه، واستهدفه تفصيلا حسب الموقع الذي يحتله، والوصف الذي يتصف به، فاستهدفه مرة بوصفه والدة كقوله تعالى:
( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة: 233) ،
وأخرى بوصفه ولدا كقوله تعالى: ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ) (الإسراء: 23) ،
والثالثة بوصفه زوجا كقوله تعالى: ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) (البقرة: 222) ،
والرابعة بوصفه زوجة كقوله تعالى: ( ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد ) (النساء: 12) ،
والخامسة بوصفه قائدا كقوله تعالى: ( وشاورهم في الأمر ) (آل عمران: 159) ،
والسادسة بوصفه مقودا كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (النساء: 59) ،
والسابعة بوصفه بائعا ( كقول الرسول صلى الله عليه وسلم : الذهب بالذهب والفضة بالفضة، والبر بالبر والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هـذه الأصناف فبيعوا كيف [ ص: 43 ] شئتم إذا كان يدا بيد ) [4] ، / والثامنة بوصفه مشتريا ( كقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان يخدع في المعاملات: إذا بايعت فقل لا خلابة ) [5] ،
والتاسعة بوصفه دائنا كقوله تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ) (البقرة: 282) ،
والعاشرة بوصفه مدينا ( كقوله صلى الله عليه وسلم : «مطل الغني ظلم ) [6] ، أي تأخير دفع الحق من الغني القادر ظلم يستوجب العقوبة،
والحادية عشرة بوصفه جانيا كقوله تعالى: ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) (النور:2) ،
والثانية عشرة بوصفه بريئا ( كقوله صلى الله عليه وسلم : ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ) [7] ،
والثالثة عشرة بوصفه مسلما ( كقوله صلى الله عليه وسلم : من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه ) [8] ، والرابعة عشرة بوصفه ذميا كما ورد في كتب السنة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام [ ص: 44 ] فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: أليست نفسا ) [9] ، وغير ذلك من الأوصاف والاعتبارات.
والمكون الثاني من المكونات الأربعة هـو الذي أطلق عليه البعد المصدري، وجعلت الدراسة الاعتداد به أثناء التعرض للنص الشرعي بالبيان والتفسير؛ عاصما من العواصم التي تحمي النص من انتقاض قيمته التشريعية وانتهاكها، بالاعتساف في تأويله، والاستحداث في تقصيده، والاسترسال في انتحال أحكام إلى الشارع الحكيم، متنافية ومتجافية وطبيعة تشريعه وأهدافه.
إذا، فالدراسة تبتغي توجيه نظر الباحثين في حقل الدراسات الشرعية، وكذلك كل من يروم فهم الخطاب الشرعي واستقاء الأحكام منه؛ وكل من يود التعرف على الخطاب الإسلامي، إلى من صدر منه الخطاب الشرعي، وبالتحديد الالتفات إلى ما يتحلى به المخاطب الشارع من صفات وخصائص وعادات، فيفهمها الباحث ويعيها، ثم يوظفها ويستحضرها خلال عملية تفسير النص وبيانه، رجاء الوقوف على حقيقة الحكم الشرعي في المسألة، كي يتسنى قبوله بقلب مطمئن، وتحقيقا لأداء الأمانة العلمية، ودرءا للتقول على الله تعالى ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم .
والمراد من هـذا البعد يتلخص في النظر إلى:
أولا: عصمة النص الشرعي وقدسيته وتعاليه.
ثانيا: الصفات التي يتصف بها الملقي المخاطب (صاحب الخطاب) . [ ص: 45 ] من المعلوم أن النصوص الشرعية في التشريع الإسلامي نصوص موحاة، متمثلة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهذه النصوص بما أنها من عند الله تعالى ومن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإنها بالضرورة نصوص معصومة، وخالية على وجه الإطلاق من النقص والخلل، ومن كل زلة أو هـفوة تعتري خطابات الناس.
والذين كفروا زعموا أن القرآن ليس من عند الله عز وجل، بل هـو قول شاعر، أو قول كاهن، أو اختلقه الرسول صلى الله عليه وسلم من عند نفسه اختلاقا، فهو كلام البشر، وقد فند القرآن الكريم هـذه الافتراءات الخسيسة المسعورة، وتحداهم تحديا كبيرا وممدودا إلى يوم الفصل أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور مثله، أو بسورة من مثله إن كانوا صادقين:
( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هـذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) (الإسراء: 88) ،
( أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله ) (هود:13-14) .
فهذا التحدي قد بلغ الذروة، وأنه يفتق الهمم، ويفجر الطاقات، ويدفع إلى المعارضة والمنازلة، وعلى الرغم من ذلك فقد عجز العرب الأوائل الخلص عن المعارضة مع وجود الدواعي لها، وعدم وجود موانع [ ص: 46 ] تمنعهم عنها. أما وجود الدواعي للمعارضة، فكان العرب قد سخروا ما أتوا من إمكانيات في إبطال دعوة النبي الصادق صلى الله عليه وسلم ، ووجهوها بهذا الاتجاه.
ومعروف أن اللجوء إلى حمل السلاح، ومقارعة السيف بالسيف لا يقدم عليه أحد إلا إذا فشل ولم ينفع كل الخيارات السلمية المفتوحة والأقل تكلفة، والإتيان بسورة من مثله أسهل على النفس من المجازفة والمخاطرة بها، بإلقائها إلى التهلكة. وأما عدم الموانع من المعارضة فلأنهم كانوا أهل الفصاحة والبلاغة، وكانوا على دراية وخبر باللغة العربية وقوانينها ومكنوناتها، وما دام قد لاح في الأفق عجزهم المبين عن ذلك؛ فقد ثبتت حقيقة كون القرآن العظيم من عند الله عز وجل.
وأكد سبحانه وتعالى على تنزيله منه في آيات كثيرة غير ما تقدم ذكرها، منها:
( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) (النساء: 82) ،
( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) (هود:1) ،
( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ) (النساء: 174) ،
( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ) (الزمر: 1-2) ،
( حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ) (غافر:1-2) ،
( حم تنزيل من الرحمن الرحيم ) (فصلت:1-2) ،
( الله الذي أنزل الكتاب بالحق [ ص: 47 ] والميزان ) (الشورى:17) ، ( فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هـم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ) (الطور:29-34) .
كما أيد صدق النبي صلى الله عليه وسلم ووطده في مواطن كثيرة، منها: ( محمد رسول الله ) (الفتح: 29) ،
( والنجم إذا هـوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هـو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ) (النجم: 1-5) ،
( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) (النحل: 44) ،
( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ) (النحل:64) ،
( لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (آل عمران:164) ،
( وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) (آل عمران:132) ،
( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين ) (التغابن:12) ، وغيرها. [ ص: 48 ]
والنصوص المساقة دلت دلالة صريحة وواضحة على صحة نسبة القرآن الكريم إلى الله تعالى، كما دلت على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوته ووجوب طاعته، وإذا تقرر كل ذلك، فيتحتم اتسام تلك النصوص بالصفات التي يتصف بها صاحب النص، ويستلزم ذلك بعدها عما سواها من الصفات المضادة والناقضة والناقصة، ضرورة استحالة اجتماع النقيضين بتمامهما وكليتهما في قضية واحدة.
فكون الثوب الواحد جميعه أبيض في وقت واحد ومكان واحد، وحالة واحدة، يتنافى وكونه أسود بالكل، فمن كان صادقا دوما في جميع الأزمنة والأمكنة والأحوال مع كل الناس، قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم، قويهم وضعيفهم، عالمهم وجاهلهم، لا يمكن أن يكون كاذبا دوما في جميع تلك الحالات على الإطلاق، أو يكون كاذبا بالجزء في بعض تلك الأحوال، وهذا ما يمليه منطق العقل السليم غير المختل، وكما قال أهل المنطق: فإن الموجبة الكلية (كل س هـو ص :كل إنسان آكل مثلا) لا يصدق مع السالبة الكلية (كل س ليس ب ص:كل إنسان ليس بآكل) ، ولا يصدق أيضا مع الموجبة الجزئية (بعض س هـو ص فقط: بعض الإنسان آكل فقط) ، وكذلك لا يصدق مع السالبة الجزئية (بعض س ليس ب ص: بعض الإنسان ليس بآكل) .
وفي هـذا الصدد؛ وردت نصوص كثيرة تشد بالنواجذ على كمال [ ص: 49 ] وعصمة صاحب النص الشرعي دوما وبالإطلاق من كل نقص وعيب، وعصمة صاحب النص يعني لا محالة عصمة النصوص من تلك النواقص والعيوب المخلة بالكمال. ومنه يفهم أن النص الشرعي -بعد الجزم بثبوته- نص مقدس خال من عيوب الخطأ والنسيان، والسهو والغفلة والضيم والبغي وغيرها.
فمن النصوص التي صرحت بهذه الحقيقة قوله تعالى:
( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ) (مريم:64) ،
( الله لا إله إلا هـو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) (البقرة:255) ،
( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) (النساء:124) ،
( وما ربك بظلام للعبيد ) (فصلت:46) ،
( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) (النساء:49) ،
( والله لا يحب الظالمين ) (آل عمران:140) ،
( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) (هود:113) . [ ص: 50 ] يقول الشيخ محمد متولي الشعراوي في شرح معنى «السلام» الذي هـو اسم من أسماء الله الحسنى:
( هو الله الذي لا إله إلا هـو الملك القدوس السلام ) (الحشر:23) : «السلام اسم من أسماء الله الحسنى، وهو يعني في اللغة البراءة من العيوب والنقائص، إذا نظرت إلى أفراد صفات كماله؛ وجدت كل صفة سلاما مما يضاد كمالها. فحياته سلام من الموت، ومن السنة والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب، علمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان، أو حاجة إلى التذكر والتفكر، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة، كلماته سلام من الكذب والظلم، بل تمت كلماته صدقا وعدلا، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه ما، وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف، والتضارب وخلاف مصلحة العباد، والرحمة معهم والإحسان إليهم، فشرعه كله حكمة ورحمة، ومصلحة وعدل» [10] .
( وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها ) [11] .
وعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم قضية متفق عليها بين علماء الأمة قاطبة، فقد عصمه ربه من كل سلوك وتصرف (قولا كان أو فعلا) مخل بالتبليغ وبيان الأحكام، والذي لا يليق ولا يتلاءم ومنزلة من رشح لمقام النبوة، من الكذب والخيانة، والنفاق والثرثرة، والجهل والغباوة، والظلم والسخرية، والاستهزاء [ ص: 51 ] والإهانة، والقسوة والغلظة، والغرور والشرور، والحسد والاستغلال، والجشع والطيش، والهوى الجامح، والعصبية والمحسوبية، والخطأ المستمر، والنسيان المرتبط بالتشريع، وغيرها من العيوب والمثالب المنفرة.
لا خلاف في أن ما أمر الرسول عليه السلام بتبليغه وبيان الحكم الشرعي فيه، فقد قام بتبليغه وبيان الحكم فيه أحسن القيام، ولم يخطأ في بيانه، ولم ينس حكما من أحكامه قط، فإذا أخطأ في بعض ما لم ينزل فيه تشريع فإنه لم يستمر على خطئه، لأن الوحي كان يتدخل فيصححه، وقد ينسى ليشرع حكم الشيء المنسي، أما أن ينسى ما يتعلق بالتشريع من غير تدارك، فهذا شيء لم يحصل على الإطلاق [12] .
وتكلم الإمام الشاطبي عن عصمة هـذه الشريعة، من وجهين:
الوجه الأول: وجود أدلة كثيرة دلت تصريحا وتلويحا على هـذه العصمة،
منها قوله تعالى: ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر:9) .
فهذا ضمان مؤكد في أن آياته لا يخالطها غيرها ولا يداخلها التغيير ولا التبديل. والسنة وإن لم يرد في الآية ذكرها؛ فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه، وإليه ترجع في معانيها.
الوجه الثاني: الاعتبار الوجودي الواقع من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى الآن، وذلك بتوفير الله تعالى دواعي الأمة للذب عن هـذه الشريعة، فقد [ ص: 52 ] قيض له الحفظة، وجرى هـذا الأمر في جملة الشريعة، فقيض الله لكل علم رجالا حفظه على أيديهم [13] .
وهذه العصمة أضفت القدسية على النص الشرعي، ( إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) (فصلت:41-42) ،
وجعلت سلطانه قويا في نفوس المؤمنين به، فظهر أثر شعاعه في سرعة استجابة المسلمين -بلا تردد وفي وقت واحد - لما ورد فيه من أحكام عقدية وخلقية وعملية، كما تجلى ذلك في استسلامهم الطوعي له جملة وتفصيلا من غير اعتراض [14] ، وليس هـذا فحسب، بل أخذ الرعيل الأول يسألون عن حكم تصرفاتهم قبل نزول أو ورود النص فيها، رغبة صادقة في معايشة التحول الجديد الذي أحدثه الإسلام في حياتهم، حيث أخرجهم من الظلام الدامس إلى النور البهي ( الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من [ ص: 53 ] الظلمات إلى النور ) (البقرة:257) ،
من ضيق الدنيا إلى سعتها، وحبا في إصباغ حياتهم بصبغة الإسلام الخالصة من الشوائب والأدران.
ومن المفارقات بين الخطاب الشرعي وغيره من الخطابات ما يتمتع به الأول من خاصية العموم، زمانا ومكانا وأشخاصا؛ فهذه الخاصية هـي الأخرى رفعت من مستوى الخطاب الشرعي، وضيقت مساحات المقاربة بينه وبين ما سواه، فصلاحية هـذا الخطاب لجميع الزمان، من زمن نزوله ووروده إلى يومنا هـذا وإلى يوم الدين، وصلاحيته لجميع الأمكنة، للجزيرة العربية ابتداء، ولجميع الأصقاع المعمورة انتهاء، وصلاحيته لكل الناس، هـذه الأمور مجتمعة توحي بما يكنه هـذا الخطاب من قوة وحيوية، والخطاب مهما كان نوعه لا يمكن أن يكون على هـذه القوة والفاعلية، والتأثير البعيد المدى والمتعدد الزوايا؛ لو لم يكن ثاويا لمعان سامية ثابتة، وقيم راقية راضية، محبذة ومشتركة بين العالمين في جميع الأعصار والأمصار على اختلاف طبائعهم وميولهم، ومستواهم الثقافي، ومركزهم الاجتماعي والسياسي الرسمي.
وما انطوى عليه هـذا الخطاب الرباني من المبادىء والأسس والنظم التشريعية المنعوتة بالثبات والبداهة، والضرورة والوضوح الذاتي، والديمومة والخلود والعالمية، كان هـو الضامن لتدفقه بالتشريع المناسب الموفور لكل مستجد، وبسط هـيمنته على الأبدان والجنان والوجدان.
وهذه الميزة (عصمة النص الشرعي) بحد ذاتها شكلت فيصلا بين النص الشرعي وما عداه من النصوص والخطابات، فلا عصمة ولا قدسية [ ص: 54 ] أبدا لنص قانوني، أو خطاب سياسي، أو أدبي، أو تأريخي، مهما كان شأن صاحبه، ومنزلته ومركزه الاجتماعي، ولو بلغ أديم السماء في الرقي باحتوائه أفكارا براقة جذابة، مبدعة متسلسلة، ومهما كان أسلوبه لطيفا شيقا سلسا، بعيدا عن التعقيدات اللفظية والمعنوية، وغير ذلك من الخصائص الإيجابية التي ترفع الخطاب إلى مستوى متميز.
والسبب في عدم اكتساء هـذا الخطاب ثوب القدسية وشرفها؛ آيل إلى صاحب الخطاب بالدرجة الأولى؛ لأن صاحبه ومنظمه لا ينفك عنه، ولن ينفك عنه على جهة الإطلاق الغفلة والنسيان، والخطأ والجهل، والهفوة والزلل، ويظل عرضة للشهوات والشبهات والشطحات، والمغريات والنزوات والهفوات، وقد يأتي هـذا الخطاب متحيزا، يعمل من أجل تحقيق مصلحة ومآرب فئة من الناس على حساب فئة أخرى، وقد يحمل فكرة تبدو في أول وهلة كأنها الحقيقة الثابتة التي لا تمارى ولا تبارى، ولا يحوم حول حماها احتمال النقض والعكس، وتظهر الأيام القادمة خلاف ذلك، وبعبارة أخرى أنه نص صادر من بشر مخلوق محدود بالزمان الذي يعيشه، وبالمكان الذي يسكنه، وبالخلفية الثقافية والاجتماعية التي تصوغ شخصيته العلمية، وبالعادات والتقاليد التي يتربى عليها ويتهرم فيها.
بينما الخطاب الشرعي على خلاف ذلك في عمومها وخصوصها، بما أنه خطاب صادر من الله تعالى، العليم بحقائق الأشياء كما هـي، الخبير [ ص: 55 ] بأمور العباد فيما ينفعهم وفيما يضرهم، الرحيم بهم، اللطيف معهم، والذي لا يطمع بخطابه جلب منفعة مادية أو معنوية له:
( يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هـو الغني الحميد ) (فاطر:15) ،
( يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا.. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئا ) [15] ، ولا يحابي أحدا منهم، وهو الحق والآمر به، والعدل والآمر به، فكيف لا تكون أحكامه رحمة وحقا، وعدلا وصدقا، وكيف لا تهدف إلى تحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية؟! والخطاب النبوي على شاكلة خطاب الله تعالى تماما، لأنه المبين له، والسنة لا تنهض بيانا للكتاب إذا لم تكن على وزانه ووفاقه، وشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وما عليه من الصفات، كان يجسد النموذج الأمثل الذي أراده الله أن يكون عليه عباده في الأرض، وهو المترجم الأمين والصحيح والكامل للقرآن الكريم، الذي نقل تعاليمه وأحكامه من دائرة الأقوال إلى دائرة الأفعال، ومن مجال التنظير والتأطير إلى مجال التطبيق والعمل الصالح.
فإذا أراد أحد أن يشاهد العدل الذي أراده الله أن يكون سائدا ومنتشرا بين البشر بغض النظر عن انتماءاتهم القومية والدينية؛ فليتأمل [ ص: 56 ] ولينظر في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فسيتلمس العدل فيه متحركا ومشهودا على الشكل والرسم الذي أراده رب السموات والأرض، وإذا أراد أن يدرك معنى الصدق، فليعد إلى هـذا النبي الصادق المصدوق ليعرف ويعايش حقيقة الصدق.
وإذا أراد أن يستوعب معنى الحق، فلينظر فيه مرة ثالثة، وإذا أحب أن يفهم حقيقة الخير والرحمة، والعفو والتسامح، والقوة والشجاعة، والجود والإيثار، والكرم والشهامة والعصامي وغيرها، فليعد لمشاهدة كل تلك المعاني إلى شخصية هـذا الرسول وسيرته وسريرته الطاهرة، وإذا رغب في معايشة الصفات والخصال الحميدة كلها فليرجع البصر كرة أخرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيجد ضالته ومبتغاه على أجمل صورة وأبهاها وأرقاها.
إضافة إلى ذلك، لو لم يكن على الصفات التي أرادها الله لما أمر الله المسلمين بحبه واتباعه، وطاعته والتأسي به ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) (الأحزاب:21) .
وحين أثنى الله تعالى على أنبيائه السابقين عليهم الصلاة والسلام لما اجتمع فيهم من أخلاق كريمة؛ كان يذكر لكل واحد منهم صفات معينة، فعلى سبيل المثال، قال عن إبراهيم الخليل عليه السلام : ( إن إبراهيم لحليم أواه منيب ) (هود:75) ، وقال عن إسماعيل عليه السلام : ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ) (مريم:54) ،
وقال عن موسى عليه السلام: ( واذكر في الكتاب موسى [ ص: 57 ] إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا ) (مريم: 51) ،
وقال عن أيوب عليه السلام: ( وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب ) (ص:44) ،
وحين تحدث عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بين أنه نال الكمالات كلها،
فقال: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم:4) .
ومن مظاهر تكريم الله تعالى لنبيه وثنائه عليه ما جاء في سورة النجم حيث أثنى على عقله بقوله:
( ما ضل صاحبكم وما غوى ) (النجم:2) ،
وأثنى على لسانه بقوله: ( وما ينطق عن الهوى ) (النجم:3) ،
وأثنى على جليسه ومعلمه جبريل عليه السلام بقوله: ( علمه شديد القوى ) (النجم:5) ،
وأثنى على بصره بقوله: ( ما زاغ البصر وما طغى ) (النجم:17) ،
وأثنى على صدره بقوله: ( ألم نشرح لك صدرك ) (الشرح:1) ،
وأثنى على أخلاقه كلها بقوله: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) (القلم: 4) .
هذا وأن خصال الكمال والجلال إذا توافرت منها واحدة أو اثنتان لشخص ما عظم قدره، وضربت باسمه الأمثال، فيقال: أحلم من الأحنف، وأكرم من حاتم، وأذكى من إياس، وهلم جرا، فكيف قدر ومنزلة من اجتمع فيه مرة واحدة كل هـذه الخصال الخيرة ؟! يقول القاضي عياض : «ما ظنك بعظيم قدر من اجتمعت فيه خصال الخير كلها مما لا يحصيه عد، ولا يعبر عنه مقال، ولا ينال بكسب، [ ص: 58 ] ولا حيلة إلا بتخصيص الكبير المتعال، من فضيلة النبوة والرسالة، والخلة والمحبة، والاصطفاء والإسراء، والرؤية والقرب والدنو، والوحي والشفاعة، والوسيلة والفضيلة، والدرجة الرفيعة والمقام المحمود، والبراق والمعراج، والبعث إلى الأحمر والأسود، والصلاة بالأنبياء والشهادة بين الأنبياء، وسيادة ولد آدم، والرحمة للعالمين، وشرح الصدر، ورفع الذكر، والتأييد بالملائكة، وإيتاء الكتاب والحكمة، وصلاة الله تعالى والملائكة عليه، ووضع الإصر والأغلال عن الخلق ببعثه، ونبع الماء من بين أصابعه، وتكثير القليل وانشقاق القمر، والنصر بالرعب، والاطلاع على الغيب، وظل الغمام وتسبيح الحصى، والعصمة من الناس، إلى ما لا يحصيه عد ولا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، إضافة إلى ما أعد الله له في الدار الآخرة من منازل الكرامة، ودرجات القدس، ومراتب السعادة والحسنى والزيادة التي تقف دونها العقول، وتحار دون إدراكها الأفهام» [16] .
ويمكننا أن نذكر بعض الأمثلة من آلاف الأمثلة التي تؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ماضيا على المنهج القرآني، مقتديا أثره جملة وتفصيلا، وأن سنته القولية والفعلية والتقريرية كانت مشحونة ومملوءة بالرحمة والعدل والحق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحابي أحدا في تنزيل الحكم الشرعي [ ص: 59 ] عليه، فقيرا كان أم غنيا، قريبا منه ( أم بعيدا، فالكل سواء أمام التشريع، كسواسية أسنان المشط.
ومن تلك الأمثلة، قصة المرأة المخزومية، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله (؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة حب رسول الله (، فكلمه أسامة، فقال رسول الله (: «أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام فاختطب فقال: أيها الناس! إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» [17] .
وكذلك قصة العسيف، فبعد ثبوت الحد عليه؛ أراد أبوه أن يفتدي منه بمائة شاة وخادم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه بالحد، وأن الحد إذا ثبت لم يقبل عنه بدل مالي، ولا يسقط البتة. روي [ ص: 60 ] ( عن أبي هـريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما أنهما قالا: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقال خصمه وكان أفقه منه فقال: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي. قال صلى الله عليه وسلم : قل. قال: إن ابني كان عسيفا (أجيرا) على هـذا، فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله جل ذكره، المائة شاة والخادم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هـذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت، فرجمها ) [18] .
وهذه الدراسة ستضع نصب عينيها التركيز على أهمية، بل حتمية استحضار الصفات والسمات التي يتصف بها الشارع الحكيم أثناء محاولة فهم النص فهما مستقيما سالما. وتلك الصفات والسمات تعد مسلمات عقدية ضرورية تلقي بظلالها على ذلك الفهم المعرض للخطأ والصواب بوصفه فهما بشريا نسبيا لا مطلقا، فتوسع دائرة احتمالية الصواب مقابل تضييق دائرة احتمالات الخطأ والخلط والخطل، ذلك لأن الفهم البشري طالما كان بمنأى عن الإطار العقدي والأطر المنضبطة التي تتحكم في عملية فهم الخطاب الشرعي؛ كان فهما لا تؤمن بوائقه، ولا يطمئن إليه القلب، ولا يستريح له النفس، ولا يستقر عنده البال، ولا يصلح به الحال، ويكون سلطان تأثيره ونفوذه ضعيفا أو معدوما، وهو ما يبعث على الخروج عليه وعدم الانقياد له. [ ص: 61 ] وكيف يعد الفهم، أو الحكم المستنبط من النص الشرعي حكما شرعيا بعزوه إلى الشارع الحكيم، والحال أنه يتعارض ويتنافى مع حكمته البالغة، وعدله المطلق؟! فكيف يعد - على سبيل المثال- الحكم الذي ينطوي على الانتصار لفئة باغية فاسدة مفسدة، والتنكيل بفئة مستضعفة مظلومة لا حول لها ولا قوة؛ حكما منسوبا إلى الله تعالى؟! والحال أنه هـو الذي حرم الظلم بجميع أصنافه على نفسه مطلقا وأبدا،
فقال عز وجل: ( وما ربك بظلام للعبيد ) (فصلت:46) ،
وقال: ( ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ) (النساء: 49) ،
وقال: ( والله لا يحب الظالمين ) (آل عمران:140) ،
وحرمه بين عباده قاطبة أيضا في كل الأحوال وتحت أي مبرر، ففي ( الحديث القدسي « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا ) [19] ، ولم يجعل بينه وبين دعاء المظلوم حجابا ومانعا، ففي الحديث: ( اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) [20] ، وهو الناصر للمستضعفين، القائل: ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا [ ص: 62 ] من هـذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ) (النساء: 75) .
فالانتصار للفئة الباغية بعيد كل البعد عن صفات الخالق وأسمائه الحسنى، وسلوكه التشريعي، فهو الذي لا يخلف وعده الذي قطعه على نفسه، ولا مانع يمنعه من إنجاز وعده ووعيده، وهو الغالب على أمره.
ثم إن الظلم له هـدفان غالبا، وهما:
الهدف الأول: يظلم الإنسان حبا في الانتفاع بجهد غيره، فيظلم واحدا ويأخذ حقه الذي جاء بعد جهد وتعب وعرق، وهو يسلبه منه من غير جهد ولا تعب ولا عرق.
الهدف الثاني: يظلم الإنسان إنسانا لحساب غيره، وهو لا ينتفع بظلمه، وغيره هـو الذي ينتفع به، وهذا شر من الأول. وقد ينتفع بظلمه، كأن يحصل على مبلغ من المال جراء قتله نفسا بريئة! والشخص الآمر بالقتل، هـو الأكثر استفادة وتلذذا في هـذه العملية الإجرامية، ذات الهدف المركب.
وقد يدفع حب الظهور والسلطة والرياسة، أو حب الأولاد والزوجة، أو غيرهم إلى الظلم، ولكن الله هـو القاهر فوق عباده، وهو رب العالمين، وأنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وهو المنعم، وهو الوهاب، وهو الرزاق، وهو خالق الجميع، ومربي الجميع، وهو أرحم الراحمين، وهو العفو، وهو الغفور، [ ص: 63 ] وهو الرؤوف. فلماذا يظلم، وكيف يتصور ويعقل أنه يظلم؟! فالظلم في حقه غير متصور، وغير معقول، فضلا عن وقوعه وصدوره عنه، فتعالى الله عن كل ذلك علوا كبيرا[21] .
وفي السياق نفسه، كيف يعد الفهم الذي يحابي جنسا على جنس من المتقين، أو يمتهن قوما منهم؛ فهما شرعيا ومنسوبا إليه، وهو يحمل الدعوة إلى العنصرية البغيضة والقومية النتنة! وكيف يعزى ذلك إلى من اتصف بصفات الكمال، وأن أسماءه كلها حسنى، وأوصافه كلها كمال، وأفعاله كلها حكم، ونفى أن يكون نيل الفضل عنده إلا بالتقوى، والعبد الأسود التقي أفضل عند الله من الرجل الأنيق العصي ( ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ) (البقرة:221) ،
( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) (الحجرات: 13) ،
وكما ( قال الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: « لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى ) [22] . [ ص: 64 ] وقد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا حينما سمع أحد الصحابة قال كلمة عرض فيها مساواة المسلمين إلى الهدر والهدم، ( فهذا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ، قد عير شخصا بأمه، فقال له: يا ابن السوداء، فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قولته، وقال له فورا: « إنك امرؤ فيك جاهلية ) [23] ، أي أنك بهذا التعيير على خلق من أخلاق الجاهلية البغيضة. وقد أخذ أبو ذر مما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم درسا عظيما، يتذكره دوما في تعامله مع من هـو دونه في مركزه الاجتماعي، فبدأ يلبس خادمه كما يلبس، ويطعمه مما يأكل. ( وهذا المعرور بن سويد يحكي لنا ما رآه بقوله: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : «يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم ) [24] .
وإذا كان استحضار تلك المسلمات العقدية أمرا ضروريا، وحتما مقضيا خلال التعامل مع الخطاب الشرعي البين، فإن تلك الضرورة تتأكد أكثر كلما كان الخطاب مشكلا، أو كان متعارضا وبعض قضايا العقول [ ص: 65 ] حسب الظاهر. وهنالك والأمر كذلك، تأتي جهود العلماء لدرء ذلك التعارض، فينظر في القضية العقلية التي تعارض الخطاب، ليعلم هـل أنها قضية عقلية قطعية، وأنها لا تقبل التغيير والتبديل، أم أنها من صنع الوهم، ونسج الخيال، أو مازالت في طور الاختبار والدراسة ولم تكسب الثقة العلمية، وإن سميت عقلية؟ فإن التسمية لا تغير من حقائق الأشياء فتيلا ولا نقيرا.
فإذا كان من قبيل الثاني (من صنع الوهم، ونسج الخيال) فإنها تطرح، ولا يلتفت إليها بالمرة. وإن كانت من القضايا العقلية اليقينية، فعندئذ تدرس درجة الخطاب، وتتحقق منها، فإذا كانت درجته قطعية من حيث القوة الثبوتية والدلالية؛ فهذا النوع من التعارض لا يوجد له مثال، ولم يثبت في الواقع، فكان ضربا من المستحيل الوقوع، وإن أجيز عقلا. ولا شك أن الكلمات الكونية مقصودة للشارع كالكلمات الشرعية، ولا يمكن تصور الانفصام بينهما إلا باعتبار ذهني مجرد. والعقل البشري هـو في ذاته كلمة كونية من كلمات الله تعالى، منساقة بالفطرة إلى ما يأتي به الشرع، وليس من الحق والإنصاف أن يجعل العقل والشرع على طرفين متباعدين في سياق التعارض والتقابل، بل ينبغي أن يدرس الإشكال في إطار وجوه التناسق الفطري الذي يفسر وحدة كلمات الله كونا وشرعا.
وإذا كانت درجة الخطاب قطعية من حيث القوة الثبوتية دون القوة الدلالية، فيتصرف في الخطاب بتأويل مقبول شرعا، فيحمل على معنى [ ص: 66 ] قريب بغية التأليف والتوفيق بينهما كلما كان النص يحتمل ذلك التأويل. وإن كان النص قطعيا من حيث الدلالة دون الثبوت فإن النظر يتوجه إلى جهة الظني، لأن القوة الدلالية تستمد شرعيتها ابتداء من القوة الثبوتية، فإذا كان ثبوت النص أمرا مترددا فيه؛ فهذا يترك على دلالته أثرا سلبيا، فيحط من قوته. وكذلك الأمر لو كانت درجة النص ظنية ثبوتا ودلالة، ففي هـاتين الحالتين (كون الخطاب ظني الثبوت قطعي الدلالة، ظني الثبوت والدلالة معا) يكون الحكم تابعا للقطعي العقلي، وليس هـذا لكونه عقليا، وإنما لكونه قطعيا لا ينازع [25] .
هذا وينبغي الاسترشاد بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا في فهم الخطاب القرآني ابتداء وقبل دراسة لغة الخطاب، أو حال المخاطب، أو غير ذلك من العناصر التي تتألف منها الرسالة الخطابية.
ومن المعلوم أن الاعتقاد السليم بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم يوجب على المسلم أن يفسر النص بمعنى، أو بحكم يتسم بالعدل والرأفة واللطف والرحمة والبر والخير، وهذا هـو الإطار الكلي والمرجعي الذي يجب أن يحيط بكل تفسير، ويشهد لكل تفسير. ثم بعد ذلك يتم تشريح النص [ ص: 67 ] وتحليله بهدف الوصول إلى الحكم الجزئي الذي جاء النص لإفادته. فليس من المستساغ تفسير الآيات من كتاب الله تعالى بما يتنافى وأسمائه الحسنى، ولا يمكن تفسيرها بما تفوح منه رائحة الظلم، والجهل بالأمور وعواقبها. كما لا يمكن تفسيرها بما يحابي جنسا دون جنس، أو بما يتحيز لقوم دون قوم، أو بما تشم منه رائحة التجسيم وغير ذلك.
وقد أكد القرآن الكريم استجلاء هـذه المعاني، حيث وصف ما ورد في الكتاب من آيات، وما تشتمل عليه الآية من أحكام؛ بأنه الحق الذي لا ريب فيه:
( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هـو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ) (الرعد:19) .
وأكد أيضا على أن الشارع لم يضع تلك الأحكام إلا لتجري المصالح على أقوم السبيل:
( إن هـذا القرآن يهدي للتي هـي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ) (الإسراء: 9) ،
وأنه الفرقان بين الحق والباطل، وذم كل من تجاوز الحد المرسوم له، وأسرف في التقول على الشريعة بالباطل: ( وما قدروا الله حق قدره ) (الأنعام:91) . [ ص: 68 ]