من النشأة السوية إلى السكتة الفكرية
منذ أن نزل الوحي على الرسول، مثل القرآن الكريم للخطاب التربوي الإسلامي ينبوعا صافيا لا ينضب، ارتوى منه سنوات وعقودا، بل وقرونا، فاكتسب بذلك قوة نهوض تربوي شارك في النهوض الحضاري العام، ذلك أن القرآن الكريم نفسه، باعتباره كلام الله سبحانه وتعالى الذي نزل على رسوله محمد كان كتاب هـداية وإرشاد، تميز بمعمار لغوي فريد ينفذ إلى القلب، ويحشد الانفعالات والعواطف في الاتجاه الذي يريد، واختص بأسلوب معجز يستثير العقل، وينشط وظائفه لتنهض بالتفكير والتأمل والتحليل والاستنباط، فيجوب العقل آفاق الكون باحثا مفكرا، وتضمن من الأفكار والقيم والتوجهات ما يشكل أعمدة بناء راسخات للشخصية المسلمة والمجتمع المسلم.
وانطلق رسول الله يؤسس لخطاب تربوي يقوم على رحابة الأفق وسعة الصدر، يبث رحمة ورفقا، يؤلف ويوحد ويربط، يوقظ ويحرك وينشط.
كان يخاطب الناس على قدر عقولهم، ويتحسس الاهتمامات والاحتياجات، ويتجه إلى المصالح والضرورات، فإذا بهؤلاء الذين يبني شخصياتهم وقد أصبحوا نوعية جديدة من البشر تستعذب الشهادة في سبيل الله، لا تعرف قعودا ولا خمولا، تمضي على طريق الجهاد بكل المجالات: [ ص: 38 ] جهاد النفس، وجهاد الأعداء، وجهاد العمل والإعمال، وجهاد التمكين لدين الله على الأرض، وفي القلوب والعقول.
إن النجاح الذي حققه النبي وتلامذته الكرام تبدى في تمكنهم بنصف قرن من الزمان أن يحرروا، ليس فقط أمتهم وعروبتهم، بل أن يحرروا نصف شعوب العالم، لا من الاستعمار العسكري فحسب بل من الاستعمار والتخلف الحضاري والاقتصادي، ومن الخرافة والجهل، ومن أمية العلم والأخلاق وأمية الإنسانية، واستطاعوا بحقيقة الإسلام وبجوهره أن يتوصلوا إلى كل هـذا.
ولئن كان بعض القادة والملوك والرؤساء قد فتحوا، لكن فتوحاتهم كانت فتوحات اسـتعمار وتسلط وسلب ونهب وعدوان، ولم يفتحوا كما فتح المسلمون والعرب الأول، فآخى خطابهم بين بني الإنسان من قلب الصين إلى المحيط الأطلسي . وكان من الملاحظ على «الخطاب الإسلامي» في العهد الأول أنه يقوم على تفهم متعمق لحقيقة الإسلام الذي هـو فقه القرآن وحكمته:
( يس والقرآن الحكيم ) (يس:1-2) ،
( كتاب أحكمت آياته ) (هود:1) ، والحكمة هـي الصواب في القـول والعمـل، إذا قال فإنه يقـول صوابا، وإذا عمل فإنه يعمل صوابا، والإنسان الذي يتأسى بخطوات النبي في ميدان التعليم بهذه الثقافة السماوية التي صـدرت عمن فطر السموات والأرض وما فيها من نظام على أدق كمـال، لا يمكن أن يخفق، ولا يمكن أن ينهزم. [ ص: 39 ] استمر هـذا الأمر، بسرعات متفاوتة، وبخطوات متباينة عبر قرون عدة، رأينا فيها علماء يعرضون لقضايا ومسائل تربوية تسهم في البناء الحضاري، لكن ما كان يوجه من خطاب تربوى، اختلف من مدرسة إلى أخرى وفقا لاتجاهات الفكر التربوي الإسلامي المعروفة، ألا وهي: الاتجاه الفقهي، والاتجاه الكلامي، والاتجاه الفلسفي، والاتجاه الصوفي، والاتجاه العلمي، والاتجاه الأدبي. فقد كان «الخطاب الفقهي» يصدر من خلال مشكلات وتساؤلات يطرحها الناس، وبخاصة الذين كانوا يتلقون التعليم، وكان الفقهاء يسيرون في خطابهم كما يسيرون في المسائل الفقهية وفقا لمنهج القياس، فيستندون بذلك إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، ويلتزمون ويلزمون الناس بما يؤدي إليه القياس من نتائج ترتبت بالضرورة على المقدمات القائمة.
ومن ثم فقد خضع « الخطاب التربوي الفقهي » لما تقلب فيه الفقه على وجه العموم من أحوال، بحيث ازدهر هـذا «الخطاب» وقت ظهور المذاهب الفقهية الكبرى، وازدهار حركة الاجتهاد والتفكير، لكنه بدأ يشهد ضعفا وتكرارا ونقلا، عندما أصيبت الحركة الفقهية بعوامل الضعف المجتمعية العامة في عصور التدهور والاضمحلال الحضاري.
أما خطاب علماء الكلام، فعلى الرغم من أنه شارك الخطاب الفقهي في حمله بصمات البيئة الإسلامية، إلا أنه حصر نفسه في دائرة القائمين به، فأصبح خطاب صفوة مفكرة، تشغل نفسها بقضايا ومسائل تداعت إليها [ ص: 40 ] مناقشات وحوارات وجدال ابتعد عن هـموم عموم المسلمين، ومن ثم لم يكن له أثر واضح على حركة التعليم الإسلامي.
حتى مسألة مثل حرية الإرادة والجبر والاختيار التي تمس حياة الناس، فقد تعاملوا معها بالأسلوب الفلسفي الذي يستخدم من الكلمات والمصطلحات ما يرتفع على الفهم العام.
بل إن اقتحامهم مناطق في «الخطاب» تعد محظورة، مثل الكلام في ذات الله، جر عليهم اتهامات مؤسفة، أبعدت عنهم جماهير غفيرة من المسلمين، وبالتالي حرمت بعض الناس من أن يبصر بعض النظرات التي توصلوا إليها، تعد من موقظات العقل.
ويزداد الابتعاد بالنسبة «للخطاب التربوي الفلسفي»، على الرغم من أن الذين قدموه ممن يوصفون بأنهم «أعلام الفكر الإسلامي»، مثل ابن سينا ، والكندي ، والفارابى ، وإخوان الصفاء، وابن رشد ، وغيرهم، ذلك أنهم تأثروا إلى حد بعيد بالفكر اليوناني وخاصة لدى كل من «أفلاطون» و «أرسطو» ، فإذا بهذا «الخطاب» ينشغل بمصطلحات ومفاهيم من مثل العقل الفعال والعقل المنفعل، والنفس الناطقة والنفس النباتية.. إلى غير هـذا وذاك من مسائل وقضايا، وهي جميعها لا تتصل اتصالا مباشرا بحياة الناس وهمومهم اليومية، مثلما كان الأمر بالنسبة للخطاب الفقهي، فضلا عن تعقيد في الأسلوب يرتفع بالخطاب فوق عقول حتى الكثرة الكبرى من المتعلمين. وزاد الطين بلة ما كان يجره التأثر بالفكر اليوناني الذي انطلق من منطلقات غير دينية، في شبه مكنت الفقهاء من اتهام بعضهم بالخروج عن الدين، ولعل [ ص: 41 ] المعركة التي أشعـلها الإمـام الغزالي بكتابه (تهافت الفلاسفة) أشهر العلامات على ذلك، ورد ابن رشد عليه بكتابه (تهافت التهافت) .
أما «الخطاب الصوفي»، فقد كان بحكم منطقه عصيا على التداول، إذ لم يكن مجرد خطاب للقراءة، بل دعوة إلى الانخراط في سلك الممارسات الصوفية، والتي هـي بدورها عصية على الكثرة الغالبة من الناس، سواء في صورتها السوية من تقشف وزهد، أو في صورتها المرضية المتمثلة في الطرق المنحرفة.
وكان من العسـير لأحد مناقشة هـذا «الخطاب» لأنه لا يقوم على قضايا منطقية عقلية، يمكن أن يشترك في رؤيتها عدة أشخاص، بل على «أذواق» خاصـة، تقتصر دائرتها على من يمر بخبرتها وحده، وفقا للمنطـق الذي يحمـله القائل: إنه لا يدرك الشـوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها (والقياس مع الفارق) . أما الغمـوض، فحدث ولا حرج. وزد على هـذا وذاك ما سار إليه بعضهم، مثل الحلاج وابن عربي من خطوات باعـدت بينهم وبيـن صحيح الدين كما فهمه السلف وتفهمه الكثرة الغالبة من المسلميـن، ومن قضايا ومسائل بعيدة تماما عن حياة المسلمين.
ولا نستطيع الزعم بأن كلا من الاتجاهين، العلمي والأدبي، كان لهما «خطاب تربوي»، بحكم أن لهما مجالات أخرى غير المجال التربوي، لكننا يمكن أن نرجح أنهما أمدا «الخطاب التربوي الإسلامي» ببعض الدعائم المهمة من مجالين احتاج «الخطاب التربوي الإسلامي» إليهما: [ ص: 42 ] فمن ناحـية، كنا نلمـس أن « الخطاب التربوي » غالب عليه -عند عدد غير قليل- طابع الوعظ والإرشاد، حتى أنه تحول عندهم إلى قوائم من النصائح، دون أن يستند ذلك إلى أسـانيد منطقية وبراهين عقلية، فضلا عما تتطلبه النصائح من قصر، فإذا بالموضوع لا يستوفي حقه من التحليل والنظر والتأمل، فإذا بالاتجاه العلمي، كما تبدى عند الكثرة الغالبة ممن اشتغلوا بالطب والفلك والرياضيات والجغرافيا والكيمياء والفيزياء، يؤكد على مسائل على درجة عالية من الأهمية مثل: الملاحظة الحسية، والمشاهدة التجريبية، وكذلك على ضرورة النقد والفحص، وأهمية عدم التسليم بما قد نجده مكتوبا من كتب السابقين مهما علا قدرهم واتسع نطاق شهرتهم. وما لا يقل عن ذلك أهمية، التركيز على وظيفية المعرفة في الحياة العملية. ومن جهة أخرى، قد تبدو مقابلة للاتجاه العلمي ما كان للاتجاه الأدبي من أثر، فمن المعلوم أن العرب بصفة عامة أهل أشعار ونثر أدبي عالي المستوى، تهزهم العبارات ذات الرنين اللفظي الحسن، والتشبيهات والتورية والمجاز ، ومن هـنا فإن من يستقرئ الأشعار العربية، والأمثال، والحكم، لا بد أنه يجد نظرات تربوية، تنفذ مباشرة إلى عقل وقلب السامع أو القارئ بحكم شكلها وصياغتها، حتى أصبح تقليدا التعقيب على كثير من المواقف التي تتضمن تربية بقول شاعر أو بحكمة أو بمثل.
لكن الخط البياني الهابط للحضارة الإسلامية منذ أواخر العصر الممـلوكي والذي انتهى بالفتح العثمانـي أصـاب «الخطاب التربوي» [ ص: 43 ] بما يمكن وصفه «بالسكتة الفكرية» قياسا على هـذا الذي يوصف « بالسكتة الدماغية » أو « السكتة القلبية »، فقد توقف الاجتهاد التربوي في الغالب والأعم، وتحولت معظم الخطابات إلى إعادة وتكرار لما سبق، وشروح وتعليقات، دون أن يخطو الخطاب إلى أمام، أو يقف مما يشرح ويلخص موقف نقد ومقارعة.
وإذا كان التدهور الذي أصـاب الدولة المملـوكية يمكن أن يفسر ما أصاب «الخطاب التربوي الإسلامي» ، حيث من العسير أن يكون هـناك نـهوض تربوي، في بنية مجتمعية أصيبت بالتخـلف والجمود، إلا أن المرء ربما يعجب متسائلا: وكيف اسـتمر الخطاب التربوي -على وجه التقريب- في جموده وتخلفه، إذا كانت دولة جديدة قد نهضت واشتد ساعدها، واستطاعت أن تمتد بالإسلام إلى أراض جديدة على الأرض الأوربية وأبرزها فتح القسطنطينية ؟ الحق أن هـذا ربما يجرنا إلى حديث طويل بعض الشيء عن الدولة العثمانية، تلك الدولة التي تختلف حولها الآراء، لكن هـذا يمكن أن يخرجنا عن مجالنا، وغاية ما يمكن الإشارة إليه أمران:
أولهما: إن الدولة العثمانية ربما هـي الدولة الكبرى الوحيدة من بين كل الدول الإسلامية السابقة لم يتعرب لسانها، والعربية هـي وعاء الثقافة الإسلامية، والحبل السرى الذي يربط بين المتعلم وبين أصول هـذه الثقافة، والوعي بهذا هـو المقدمة الأولى بطبيعة الحال لمن أراد الكتابة والتأليف. [ ص: 44 ] صحيح أن البلدان التي تعربت، وفي مقدمتها البلدان العربية ظلت عـلى عربيتها، لكن الكثرة الغـالبة عادة ما تنظر إلى ما تكون عليه طبيعة سلطة الحكم وتوجهها، مما يؤدي إلى إضعاف الجهد الفكري على طريق العربية. من جانب آخر، فإن الطابع الذي غلب على هـذه الدولة هـو السياسة والحرب، خاصة وأنها قد جاورت وتداخلت في العمق الأوربي الذي ما كان له أن ينسى أبدا هـزيمته من الدولة العثمانية، وعشرات السنين من الحروب المسماة بالحروب الصليبية ، فمثل هـذا الموقع وذاك الموقف كان قمينا بأن يجعل العثمانيين في حالة تأهب واستنفار، سياسيا وعسكريا.
وربما تشابهت الدولة العثمانية في ذلك مع الدولة الرومانية من قبل، حيث كان لها تفوقها البارز على الساحتين: السياسة والحرب، بينما ظلت معتمدة على الثقافة الإغريقية السابقة عليها.
ومنذ ما يقرب من ثلاثة قرون من الزمان أخذت كثرة من البلدان الإسلامية تسقط واحدة تلو الأخرى تحت براثن قوى هـيمنة وتسلط واستغلال جاءت من الغرب، حيث وجدت الطريق أمامها يكاد أن يكون ممهدا بفعل ما كانت عليه البلاد الإسلامية من تخلف حضاري، وكأن السنة الإلهية المعروفة في حركة الرياح هـي نفسها السنة الإلهية في حركة الحضارات، فكما أن الرياح تهب من مناطق الضغط الجوي المرتفع إلى مناطق الضغط الجوي المنخفض ، كذلك فإن الحضارة تهب من البلدان المتقدمة على البلدان المتخلفة. [ ص: 45 ] لكن الأمر لم يقف عند هـذا الحـد، وإلا اعتبـرناه حركة محمودة، وإنما صاحبه وواكبه حركة احتلال عسكري، واستغلال اقتصادي، وقهر سياسي، وعدوان وعنف وسعي حثيث نحو التفتيت والبطش والاسـتبداد، مما ترتب عـليه أن طال أمد التخلف واستفحل أمره حتى تجذر، وخيل إلى بعضهم وكأنه أصبح أمرا ملازما لطبيعة شعوب المنطقة.
وإذا كان التخلف يقاس بمظاهر ومعايير كثيرة أهمها ضعف مستوى الإنتاج وأدواته ومعدلات نموه، وغلبة الاقتصاد التقليدي، وضآلة قطاع الصناعة، ومعيشة الأغلبية العظمى من الناس على الزراعة وما يتصل بها من رعي وصيد، وانخفاض الدخل، وتواضع الخدمات والرعاية الاجتماعية، وعقم النظم الإدارية وما يتصل بها من قوانين ولوائح، وهزال هـياكل الإنتاج وبناه التحتية من وسائل نقل ومواصلات وقوى محركة، وتسلط العادات والتقاليد البالية والأفكار العتيقة... إذا كان التخلف يقاس بهذا كله وغير هـذا كله، فإنه في الأول والآخر –بل قبل هـذا وبعد هـذا– هـو تربية المجتمع وتربية الفرد الذي يقصر علمه وخلقه وإيمانه وعمله وعلاقاته عن مواجهة تحديات الحياة، وعن استثمار إمكانات عقيدته وطاقات بلاده وقدراته الشخصية لمصلحة الأمة إلى أقصى حد ممكن. [ ص: 46 ]