الرضاعة الطبيعية، رحمة من الله للأم والطفل
أوصى القرآن الكريم خيرا بوالدي الطفل، وطلب عدم إلحاق أي ضرر بالوالد أو الوالدة، بسبب الطفل، وهذا من باب الرعاية والرحمة بالوالدين، علاوة على أن الضرر الذي يصيب أحدهما، غالبا ما يصل إلى الصغير، ويؤدي إلى الإضرار به أيضا، فلا ينبغي للأم أن تحاول النكاية بالأب، والإضرار به، عن طريق الإضرار بالولد بامتناعها عن إرضاعه، رغم عدم تقصير الأب في القيام بواجبات النفقـة والرزق والكسـوة، ولا ينبغي للأب، أن يحاول الإضرار بالأم، دون النظر إلى ما قد يصيبها من ضرر، فينـزع الولد منها، مع رغبتها في إمساكه، وشدة محبتها له، ورغبتها في إرضاعه، فلا يكون هـدف الوالدين غيظ أحدهما للآخر، عن [ ص: 59 ] طريق حرمان الولد من أحد والديه؛ لأن ذلك يؤدي إلى الإضرار بالولد الذي لا ذنب له في ذلك.
وقد أمر الله بالتوسعة في النفقة على الأمهات المرضعات، على قدر سعة الأب،
فقال تعالى: ( على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ) (البقرة:236) ،
وقال: ( لينفق ذو سعة من سعته ) (الطـلاق:7) ،
( لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) (الطلاق:7) ،
أي ما أعطاها من الرزق، فإن الأم عندما تصلها نفقتها، تستطيع أن تتناول الطعام والغذاء الذي تحتاجه، مما يجعل اللبن الذي يتناوله الطفل، مغذيا، محتويا على كافة العناصر الغذائية التي يحتاجها جسمه. كما أنه لا ينكر أحد تأثير الحالة النفسية على صحة الإنسان، فكلما كانت الحالة النفسية للأم طيبة، كانت صحتها طيبة، وكان اللبن الذي تعطيه لابنها مفيدا، وهذا ما يعرفه أجدادنا، بخبرتهم ومشاهداتهم التي تناقلوها أبا عن جد، وهذا أيضا ما يؤكده العلم الحديث، لهذا أوصى الله سبحانه وتعالى بالأم خيرا، بمعاملتها، وبالإنفاق عليها؛ لأن ذلك يؤدي أيضا إلى تحقيق الخير والفائدة للطفل.
إن الله سبحانه وتعالى رحيم بالطفل، وقد يسر له كافة السبل التي توفر وصول اللبن إليه في راحة وبدون مشقة، ويحقق له الغذاء المفيد، بطعم حلو المذاق.. ففي الوقت الذي يكون فيه الجنين في رحم أمه، ينصب من الدم نصيب وافر إليه، حتى يصير مادة لنمو أعضاء ذلك الولد وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرحم ينصب ذلك النصيب إلى جانب الثدي [ ص: 60 ] ليتولد منه اللبن الذي يكون غـذاء له، فإذا كبـر الولـد لم ينصب ذلك النصيب لا إلى الرحم، ولا إلى الثدي، بل ينصب على مجموع بدن المتغذي، فانصباب ذلك الدم في كل وقت إلى عضو آخر، انصبابا موافقا للمصلحة والحكمة، لا يتأتى إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم.
وعند تولد اللبن في الضرع، أحدث الله تعالى في حلمة الثدي، ثقوبا صغيرة ومساما ضيقة، وجعلها بحيث إذا اتصل المص أو الحلب بتلك الحلمة انفصل اللبن عنها في تلك المسام الضيقة، ولما كانت تلك المسام ضيقة جدا، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصفاء والنقاء واللطافة، وأما الأجزاء الكثيفة فإنه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيقة، فتبقى في الداخل، والحكمة في إحداث تلك الثقوب الصغيرة، والمنافذ الضيقة في رأس حلمة الثدي أن يكون ذلك كالمصفاة، فكلما كان لطيفا خرج، وكلما كان كثيفا احتبس في الداخل، ولم يخرج، فبهذا الطريق يصير ذلك اللبن خالصا، موافقا لبدن الصبي، سائغا للشاربين.
كما أنه سبحانه وتعالـى، ألهم الطـفل إلى المص، فإن الأم كلما ألقمت حلمة الثدي في فم الطفل، فإنه في الحال يأخذ في الحلب، ولولا أن الفاعل المختار الرحيم ألهم ذلك الرضيع الصغير ذلك العمل المخصـوص لما حصل الانتفاع بتخليق ذلك اللبن في الثدي.
ومن رحمة الله بالطفل الرضيع وأمه، أنه أخر إنبات الأسنان إلى أن يكبر الطفل، ويحتاج إليها في تقطيع الطعام ومضغه، أما إنبات الأسنان [ ص: 61 ] قبل ذلك فإنه يؤذي الأم، ولا يفيد الطفل في شيء، إذ إن الأسنان تؤلم الأم عند إرضاع الطفل.. وقد أشار إلى ذلك ابن قيم الجوزية عند ذكر نصائحه التي يوجهها للوالدين، لرعاية طفلهما الصغير، فقال: وينبغي أن يقتصر بهم على اللبن وحده إلى نبات أسنانهم، لضعف معدتهم، وقوتهم الهاضمة من الطعام، فإذا أنبتت أسنانه قويت معدته، وتغذى بالطعام، فإن الله سبحانه وتعالى أخر إنباتها إلى وقت حاجته إلى الطعام، لحكمته ولطفه، ورحمة منه بالأم وحلمة ثديها، فلا يعضه الولد بأسنانه.. وإذا كان الإسلام حفيا بالأمومة، حفيظا عليها فهو بالأم الحامل، أو المرضع، أحفل وأشد حفاظا، فهي تحمل بين أحشائها أعظم مخلوقات الله، لذلك كان الإسلام في أحكامه التشريعية، يقوي عزيمتها ويشد من أزرها، ويخفف عنها في العبادات، إذ يبيح لها الفطر في رمضان، ويخفف عنها في الصلاة، ولكنه في نفس الموضع، وإلحاقا لتوصية الإنسان بوالديه، يشير إلى حق الوليد في أن يرضع من ثدي أمه، ذلك الينبوع الطاهر، الغني بالعطف والحنان والغذاء والشفاء وتقوية الذكاء.
وحين ينص القرآن الكريم على أن: ( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) (البقرة:233) ،
إنما يشير إلى أن ذلك حق مقدس للطفل، وهو أول خطوات التربية البدنية، والنفسية، والذهنية السليمة، ومن الظلم تقديم بدائل لهذا الوليد البريء، العاجز عن التعبير عن رغباته وحقوقه واحتياجاته، وإذا كان هـذا [ ص: 62 ] حقا للطفل، فإنه حق وواجب على الأم في الوقت نفسه، حق في التمتع بأمومتها، وإشباع رغبتها في أنوثتها، وإرضاء غريزتها، والتمتع بثمرة معاناتها شهورا طويلة، كما أنه واجب عليها أن تؤديه بما يرضي الله، ولولا حجم المسألة لما قال سبحانه وتعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) (القصص:7) .
كما إنه من رحمة الله تعالى بالأم، أن الطب الحديث أكد أن نسبة المصابين بمرض سرطان الثدي تزداد بين غير المرضعات، أما من يقمن بالرضاعة الطبيعية فإنهن نادرا ما يصبن بهذا المرض، وقد أكدت الإحصاءات ذلك، وهذا يدعونا إلى التمسك بالإرضاع الطبيعي؛ لأنه يحقق للأم الصحة البدنية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن فوائد الرضاعة الطبيعية، ليست هـي فقط التي تـم توصل العلم الحديث إليها، بل هـي ما تم التوصل إليه، وما سيتم التوصل إليه، بل وغيره مما لم يكشفه الله لنا،
قال تعالى: ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) (النحل:18) .