تمهيد
عن أصول الدعوة
مدخل
لتأسيس أي خطاب دعـوي، ولأي من النـاس يراد دعوتهم، لا بد من بنائه على أصول راكزة، فإن الذي يبنى على غير أصل يسهل تهديمه، ويبعد أن يأتي بثماره المنتظرة وينعه في مواسم الخير مهما سقي وروعي واتخذت أسباب العناية والحماية والمحافظة.
والمقصود بأصول الدعوة: المرتكزات الأساس الواجب انطلاق الدعوة منها، والغالبة على حال الدعوة المستمر واستقرارها الطبيعي، والمطلوب أن تنتهي إليه الدعوة إلى الله في الناس
[1]
وباستقراء النصوص وحال الدعوة وتاريخها من وقائع دعوات الرسل-عليهم السلام- يظهر أن الأصول التي بنيت عليها الدعوة إلى [ ص: 40 ] الله تعالى أصلان، أصل باعتبار طريقة الدعوة، والآخر باعتبار الفئة المدعوة. وعليه:
فالأصل الأول الجهرية، والسرية مرحلة.
والأصل الثاني الجماهيرية، والفردية مرحلة.
وفيما يلي نوضح أمرهما يما يليق والمقام - بتوفيق الله تعالى.
الأصل الأول: الجهرية لا السرية
إن الله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام في أوائل ما أنزله على قلبه، آمرا إياه أمرا صريحا: ( قم فأنذر ) (المدثر:2) ..
والإنذار إعلام وإظهار بالمنذر به، أي أعلن واجهر بدعوتك. وهذه السورة -سورة المدثر- تعتبر على الصحيح السورة الثانية بعد سورة اقرأ [2]
ويقول تعـالى لنبيـه صلى الله عليه وسلم كـذلك في السـورة المـكية: ( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ) (الحجر:94) ..
ومعنى قوله تعالى: ( فاصدع بما تؤمر ) ، كما قال الزجاج : أظهر ما تؤمر به. وقال الفراء : أراد فاصدع بالأمر، أي: أظهر دينك، وهو المعنى الذي رجحه [ ص: 41 ] الشوكاني في تفسيره [3]
فالدعوة، الأصل فيها أن تكون جهارا في إعلان وإظهار للناس، بلا تخف من أحد، ولا إسرار وكتمان، فإن ما يدعو إليه الداعي إلى الله لأعظم أمر وأنفع أمر وأصلح أمر، ودين الإسلام حق كله، وصدق كله، وخير كله، وصلاح كله، وعدل كله، وبركة كله، فمم يتخفى الداعية؟ وعلام يكتم؟ والشر يعلن، والباطل يجهر به، والرذيلة يمشي بها أصحابها بلا خجل أو حياء، والظلم يمارس جهارا؟؟..!!
وعليه، فالحق أن ينطلق الدعاة بدعوتهم، جهارا بها وإظهارا لخيرها ونفعها للعالمين، مبشرين ومنذرين.
ولكن، قد يتغير الحال الأصل غير الحال، وتنقلب الأمور على غير ما كانت، وتسوء الأحوال والأجواء، فيطرأ على الدعاة ما لا يمكنهم من الإجهار بدعوتهم، فيلجأون إلى الإسرار، لا لأن الإسرار هو الأصل، وإنما اضطرارا لا اختيارا لأسباب وعلل.
هذه الأسباب التي تجعل الدعوة سرية، ويضطر لأجلها أهل الدعوة أن يبلغوا المدعووين سرا لا جهرا هي:
1- غربة الإسلام بحيث يكون الحق قد انطمست معالمه حتى [ ص: 42 ] أصبح الناس يعدون الحق باطلا والباطل حقا، أو يكون الناس قد تعارفوا على طقوس معينة اعتبروها دينا وشريعة، إلى درجة أنهم إذا جاءهم أمر مخالف لما تعارفوا عليه حاربوه وعادوه، فيضطر صاحب الدعوة إلى التخفي بدعوته ولا يستطيع مع هذه الحالة التبليغ علنا وجهرا، يسمع البلاغ الجماهير، لأنهم يستغربونه، وهذا يحوج البلاغ أن يكون للأفراد في سرية وتحوط.
2- الترصد والمطـاردة من قبـل المشـركين أو الطغـاة المتجبرين ممن كره الإسلام والدعوة إليه والالتزام به، وهم بأهل الدعوة متمكنون، وعلى رقابهم متسلطون، وعلى عذابهم قادرون، فإن أعلنوا الدعوة أوقعـوا عليهم أشـد العذاب، وأوقـفوا مسيرة البلاغ، وبثوا الفتنة فيمن التزم واستجاب، فلا يصلح في هذه الحالة إلا إسرار الدعوة والتخفي بها.
3- انعدام النصراء والحماة والدعاة الرفقاء ، وقد انفرد الداعية في بلد أو مكان ولم يجد له حاميا ولا معه نصيرا، فيضطر إلى التخفي بدعوته حتى يجد النصراء والرفقاء بالحسنى والحماة الأقوياء من أهله وعشيرته أو أعيان تلك البلدة.
وغير ذلك من الأسباب الموضوعية والدواعي الواقعية والظروف [ ص: 43 ] الطارئة التي ينقلب بها أمر الدعوة من الإجهار والإعلان إلى الإسرار والإخفاء.
أما أن تجعل الدعوة سرا على طول المسير وغالب أيام البلاغ، فهذا خلاف الأصل الذي يجب أن تكون عليه الدعوة ويغلب في أيام البلاغ، وخلاف المنهج الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ومن اتبعهم بإحسان.
بل المغالاة في السرية تنتج مساوئ ومضار دعوية، منها:
أ- أن أمر الدعوة والدعاة يكون غامضا عند عامة الناس، وفي هذه الحال إذا وجد من يشيع الشبهات حولها أو يختلق عليها الافتراءات والأكاذيب، فقد تجد هذه الافتراءات والشبهات والأكاذيب قبولا عند العامة لعدم معرفتهم لحقيقة الدعوة وجماعات الدعاة، ولا يعرفون حجة يدافعون بها عنهم.
ب- أن المبالغة في السرية تثير عند الناس الشكوك وسوء الظن، إذ يتساءلون: إذا لم يكن لهؤلاء الدعاة وجماعاتهم سوى الدعوة إلى الله من أهداف مشبوهة فلماذا الكتمان والسرية؟؟
جـ- عدم ظهور قادة الدعوة وجهل الناس بهم، وهم في الأصل القدوة الحسنة لغيرهم من جماعات الدعاة وعامة الناس، والناس إن [ ص: 44 ] عرفوهم ووجدوا فيهم الصدق والإخلاص والتجرد والصلاح اشتدت ثقتهم بهم، وتأسيهم بهم، واستجابتهم لدعوتهم، وتلبيتهم لمطالبهم، والنصرة لهم ولدعوتهم، وبذلك يحبطون مكائد الأعداء، ويحال بينهم وبين ما يشتهون من التشكيك فيهم والتشويه لدعوتهم.
وغير ذلك من المساوئ والمضار التي تلحق بالدعوة من جراء الاستمرار في كتمان الدعوة والإسرار بها، والمبالغة في ذلك [4]
الأصل الثاني: الجماهيرية لا الفردية
إذا كان قد اتضح أن الأصل في الدعوة أن يكون جهارا لا لواذا، إعلانا لا إسرارا -إلا في مراحل وضرورات- فإن إجهار الدعوة يقتضي سماع الجماهير وإعداد الناس لها، ودخولهم في توجيهها.
فالدعوة في طبيعتها للكافة، لا تقتصر على أفراد، ولا نخبة أو صفوة، بل ينساح خطاب الدعاة إلى الناس جميعا، ينطلقون بدعوتهم إلى العالمين، لا يحدهم قطر، ولا تحبسهم حدود، بل تتوجه دعوة الإسلام للعالمين، لا يحصرها زمان ولا مكان، وإنما يسري خطابه لكل [ ص: 45 ] قرن وأمة في التاريخ، وكل قرية وقوم وملة على وجه الأرض، ويسمع صيحة الحق من ألقى السمع وهو شهيد، فلم يكن خطاب الدعوة خطاب قوم أو فئة أو أمة أو إقليم،
بل هو خطاب نذارة وبشارة للعالمين: ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) (ص:87) .
وكتـاب الله تعـالى من أول أمره نداءه إلى جماهير الناس يدعوهم لعبادة الله والاستجابة لدينه الحق ورسالته الخاتمة: ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) (البقرة:21) .
ورسول الإسلام إمام دعاته ما أرسل إلا للناس أجمعين، يخبره بذلك ربه تعالى،
يقول له: ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) (سبأ:28) .
ويعلن ذلك هو نفسه،
كما في قوله تعالى: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) (الأعراف:158) ..
وقوله تعالى: ( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين ) (الحج:49) .
ومن كلفوا بالتبليغ والتبيين والدعوة، أمروا أن يكون بلاغهم وبيانهم ودعوتهم لجماهير الناس [ ص: 46 ] حيث يقول الله سبحانه وتعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) (آل عمران:187) .
فكل هذا يؤكد أن الأصل في الدعوة إلى الله أن تكون جماهيرية لا فردية، عمومية لا خصوصية، جهرية لا سرية...
وكما رأينا حالات وضرورات الدعوة السرية; فإن الدعوة الفردية -التي تختص بالأفراد وتنغلق عليهم ولا تنفتح على الجماهير- كذلك يكون استثناء لحالات وضرورات وظروف، هذه الحالات التي تنتقل فيها الدعوة من الجماهيرية -الأصل- إلى الفردية هي تقريبا ذات الضرورات والظروف الخاصة بالسرية أو تشبهها جدا، كغربة الإسلام، وتعالي الطغاة، وقفل أبواب الدعوة، والترصد للدعاة مع القدرة على الإيذاء وعلى إيقاف الدعوة، ونحو ذلك..
فإذا انسلخت الضرورة القاضية للإسرار والإفراد في الدعوة، انبسط الخطاب للناس صيحة بالحق ونذارة وبشارة للخلق، وما أن يرتفع الظرف المانع للإعلان والمواجهة، حتى ينتشر الدعاة في كل ناد ومسجد، وفي كل فصل وقاعة، وفي كل بيت وساحة وميدان، وعند كل تجمع وتجمهر والتقاء، يذكرون ويعظون ويرشدون ويدعون، لتطمئن بدعوتهم القلوب فتذكر الله، وتنفتح بخطابهم المقنع العقول [ ص: 47 ] المستغلقة على الخير والبر والرشاد فتستجيب لأمر الله، وينجلي عمى العيون عن البينات والهدى فتنظر في كتاب الله وآيات خلقه البينات وتبصر الصراط المستقيم.
وإن كان الأصل في الدعوة الجماهيرية، فإن استقطاب الجماهير إلى الالتـزام بالحـق، واستهـداءهم ليكـونـوا نصراء للدعـوة يجدهم أهـل الدعـوة عنـد الحـاجـة، ويبـقون بهم بيـضة الحـق محمية نقية لا يمسها مغرض مرتاب بسوء، ويبثون على أيديهم وألسنتهم تعاليم الدين وأوامـر الشـرع ليسعد من بلغهم وأظلهم بعدله وقسطاسه وخيره وبركاته.
هذا الاستقطاب الجماهيري يتطلب خطابا خاصا غير خطاب الأفراد، وتتعين له وسائل معينة ترشده وتسعده وتوفقه، وأساليب تزينه وتنجحه.
وعليه، نخصص بعد توفيق الله تعالى فصلا لمكونات الخطاب الدعوي الجماهيري، وآخر لوسائل الاستقطاب الجماهيري وأشكاله وأساليبه. [ ص: 48 ]