خاتمة
إن المتأمل في شريعة الله عز وجل تأمل الفطن، يتضح له كم هي مبنية على أصول إنسانية واسعة، تستهدف إسعاد الإنسان وصونه عن الشرور، تتعامل معه في جميع أحواله، وتتماشى ومختلف أوضاعه...
إن الشريعة -كما يقول ابن القيم رحمه الله- مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خـلقـه، وظـله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها [1] .
في هذا الإطار، حاولت أن أربط فقه الواقع بالدعوة الإسلامية، فخلصت إلى ما يلي: [ ص: 173 ]
- إن فقه الواقـع هو الفهم العميق لما تدور عليه حياة الناس وما يعترضها وما يواجهها. ولا يتم ذلك إلا بتوفير العناصر الثلاثة: إدراك المؤثـرات البيـئـية، فـقه الحركة الاجتماعية، سبر أغوار النفس البشرية.
- إن هناك تطرفين نتجا عن جمود الاجتهاد: تطرف يدعو إلى أولوية الواقع على كل نص، وتطرف يدعي أن الكتاب والسنة فيهما ما يغني عن هذا الفقه، وما علينا إلا أن نطبقهما بحرفيتهما، وهذا لقلة فهمهم لدين الله عز وجل ، أو لسوء فهمهم له.
- إن القرآن الكريم في جميع توجيهاته راعى الواقع الإنساني، وتعامل مع الإنسان انطلاقا من واقعه، وكذلك كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهدي الصحابة والخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم. وقد أردنا بإيراد الصور والنماذج منها أن نستدل على أن فقه الواقع ليس أمرا مبتدعا، وإنما له أصول من الكتاب والسنة واجتهاد السلف، ووجوده ضروري، فالمتبصر بواقع المجتمع وظروفه، (كالذي يلازم السوق، يترصد الصفقات المواتية، فالصافق المتاجر، يجلس الأيام والأسابيع ينتظر ولا يشتري، ثم فجأة تعرض له [ ص: 174 ] صفقة بثمن بخس، يدرك بحواسه وحدسه أنه سيربح منها من بعد، فيسارع إلى الشراء، فلو لم يكن جالسا في السوق مراقبا منافسيه، لما عرفها، ولو لم تكن نقوده بجيبه لسبقه غيره، فلأنه كان يقظا متحفزا مليء الجيب أتاه الربح، ولو اكتفى منصتا في ركن خلفي من مقهى السوق إلى قاص يقص عليه خبر نجاح التجار لألهته القصص، وخدرته الأوهام والأحلام) [2] .
وهذا هو واقع كثير من أبناء الصحوة الإسلامية.
- إن مقاصد الشريعة بمثابة الضوء الذي يحدد لنا كيف نتعامل مع الواقع، فكانت في نظرنا الضابط الأول الذي يضبط علاقة الدعوة بالواقع، وكانت الضوابط الأخرى، القياس، الاستصلاح، الاستحسان، الاستصحاب، العرف، نابعة أو تابعة للضابط الأول. وأردنا بها أن نبين أن الواقع لا يمكن أن يعتبر إلا في ضوء هذ الضوابط، ولا يخرج عنها، وإلا كان ذلك تحريفا لدين الله عز وجل ، وتبديلا لملامح الشريعة.
- إن مهمة الترجيح، أو الاجتهاد، ليست مهمة أي كان، وليست حقا مشاعا، كما يدعي بعضهم، وإنما هي أمر جماعة من [ ص: 175 ] العلماء المختصين الأتقياء، الورعين الحافظين لحدود الله، الأمناء على شرعه.
ولا نريد أن ينحصر فقه الواقع في مجال الأحكام الفقهية، إنما نريده أن يتعدى ذلك إلى مختلف مجالات الحياة، سياسة، واقتصادا، واجتماعا، وتنظيرا وتنفيذا، من أجل إعادة الصورة الحقيقية للمجتمع الإسلامي الذي يرضي الله عز وجل ويرضاه. [ ص: 176 ]