تمحور القيم في الإسلام حول الكليات الخمس
سبق أن أشرت في التمهيد لهذا البحث إلى أن الإنسان -مطلق الإنسان- محكوم عليه بالخسار، وأنه لا يخرج من الحكم، إلا بفضل إيمانه بالله عز وجل وتحليه بمكارم الأخلاق التي تنعكس على علاقته بربه وعلاقته بأخيه الإنسان وبظواهر الكون من حوله. والإنسان كائن اجتماعي، إضافة إلى كونه يشعر بعمق بكيانه الفردي الأصيل، ويريد الاستمرارية والبقاء، ويدافع عنه لذلك بكل ما أوتي من إمكانيات ووسائل... وأوضح مقومات هذا الإنسان عقله ونفسه ونسله.. [ ص: 72 ] فالعقل هو أداة الإنسان الفعالة التي يمارس بها أمانة الاستخلاف عن طريق عملية التفكير والتدبر في ملكوت السماوات والأرض، بحثا عن الطاقات المسخرة فيها من أجل إنجاز عمله الحضاري وحماية وجوده.
وهنا يأتي عنصر المال كأداة ضرورية لاستمرار العمل الحضاري، وقبل ذلك لاستمرار حياة الإنسان، غير أن العناصر الضرورية السالف ذكرها (العقل، النفس، النسل، المال) لا تكتمل إلا بعنصر ضروري آخر هو الدين، بل إن الحياة الإنسانية أو الوجود الإنساني لا يقوم إلا به. وهذه العناصر الخمسة هي ما اصطلح على تسميته بالكليات الخمس، يقول أبو إسحاق الشاطبي وهو يتحدث عن تلك الكليات: إن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام: أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية.. فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين. والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثاني ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم. [1] [ ص: 73 ]
ومن خلال كلام الإمام الشاطبي يتبين أن الهدف من تكاليف الشريعة يتمحور حول صيانة وحفظ مجموعة من المقاصد المرتبطة بالحياة الاجتماعية والفردية للإنسـان، ومن ضمن هذه المقاصد ما هو ضروري مما سبقت الإشارة إليه، وأنه بدون تحقيق المقاصد تختل حركة الحياة وتصير إلى فساد... ويتبين لنا أيضا أن حفظ تلك المقاصد يكون أولا بإقامة أركانها وتثبيت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، أي رعاية الشروط التي تحمي كيانها وتحافظ عليه في صفة السلامة والكمال والتوازن.. ويكون ثانيا بدرء الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم، أي الحيلولة دون ما من شأنه أن يعرضها (أي المقاصد) للتلف أو الضعف والنقصان.
إذا عرفنا هذا، عرفنا تبعا له أن حفظ تلك المقاصد لا يتم إلا من خلال تشبع الأفراد بنظام من القيم يتصف بالكمال. ومن خصائص الكمال، أن تكون تلك القيم ملامسة لشغاف الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لصيقة بها، لا تنفك عنها قيد أنملة. وليس ذلك النظام إلا النظام القيمي الإسلامي، الذي هو قوام النظام التربوي في الإسلام. وهذا النظام القيمي -كما أسلفت- هو الذي يتشكل منه النظام الاجتماعي، ويقوم على أساس راسخ هو الإيمان بالله، والإقرار بالعبودية الخالصة له، إذ إن (هناك ارتباطا بين طبيعة (النظام الاجتماعي) وطبيعة (التصور الاعتقادي) ، بل هناك ما هو أكبر من [ ص: 74 ] الارتباط الوثيق. هناك الانبثاق الحيوي. انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي، (..) هذا الانبثاق، ثم هذا التكيف، وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم، وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعا) [2]
على هذا الأساس، فإن القيم التربوية من تعاون وصدق في القول وإخلاص في العمل ووفاء واحترام لكرامة الإنسان، وحب الخير للناس، وتقدير لأمانة الاستخلاف، وإغاثة الملهوف... وصبر على الشدائد، وغيرها من القيم التربوية الإسلامية، لا يمكن أن تينع وتزدهر إلا في ظل الاعتقاد الصادق في الله ومراقبته بصفة دائمة. وهذا الشرط وحده هو الكفيل بضمان الحفاظ على المقاصد التي رمت إليها الشريعة الإسلامية. إن الإسلام (يعتبر القيم عماد المجتمع وسنام نظامه، بل ونظام الأمة الاجتماعي كله، ولهذا السبب فإننا لا نجد أي مفهوم للأخلاقيات الشخصية أو التقوى يخلو من العمل الاجتماعي في ظل الإسلام، وبالتالي تحتل الشريعة مكانة سامية في إطار المجتمع الإسلامي. فإذا حدث خروج عنها، اختلت الشخصية الإنسانية وتأثر الفرد ماديا واجتماعيا) [3]
وانهار المجتمع بأكمله. [ ص: 75 ]
ولا يفوتني وأنا أعالج هذه النقطة المهمة، الإشارة إلى أن القيم التربوية الإسلامية لا ترتبط بصلة وثيقة بالكليات الخمس التي تكتسي طابع الضرورة فحسب، بل إنها تمتد لتنسج خيوطها مع دائرتين اهتم بهما علماء أصول الشريعة ومقاصدها، وهما دائرتا الحاجيات والتحسينات.
إن القيم التربوية في مفهومها الإسلامي تنشر أجنحتها على سلوك الإنسان في جوانبه الدقيقة لتضمن لها الارتقاء والتدرج في مستويات الكمال والذوق الرفيع. وإذا كان المسلمون يتفاوتون فيما بينهم في الأذواق والأشواق، فإن ذلك التفاوت يقوم على المقدار الذي يجنيه كل فرد من هؤلاء، من الشحنات والدفقات التي تهبها القيم التربوية لكل متشبع بها، أي أن ذلك التفاوت ينبني -بتعبير آخر- على حظ كل واحد من أفراد المسلمين في المسابقة والمسارعة إلى الخيرات التي يسعى المسلم أن يصل من خلالها إلى الله تعالى، فيقف بين يديه وهو على قدر كبير من الصفاء والارتقاء.
ونخلص في ضوء المعطيات التي مرت بنا، إلى أن القيم التربوية الإسلامية تتمحور حول الكليات الخمس وما يتعلق بها من حاجيات وتحسينات، وأنها تتحرك في إطار العقيدة، أي في إطار التصور الشمولي الذي يمنحه الإسلام للإنسان، فهو المهماز الذي يحفز تلك [ ص: 76 ] القيم ويمنحها قوة الدفع.. وبدونها يظل الإنسان مثاقلا إلى الأرض، راسفا في أغلال الماديات. إن الإنسان هو محور الحياة في هذه الأرض، ومن ثم فهو محور ومدار النظام التربوي وما يتضمنه من نسق للقيم... والهدف من النظام التربوي كله في أي مجتمع من المجتمعات هو الارتقاء بهذا الإنسان، والارتفاع به إلى القمة، وتمكينه من القيام برسالته.