الفصل الثاني: تنظير أسس القيم التربوية الإسلامية
تحديد المراد بالقيم التربوية الإسلامية
إذا كانت التربية الإسلامية تهدف (إلى رعاية الإنسان في جوانبه الجسمية والعقلية والعلمية واللغوية والوجدانية والاجتماعية والدينية، وتوجيهها نحو الصلاح والوصول بها إلى الكمال، (وإذا كانت غايتها) هي تحقيق العبودية الخالصة لله في حياة الإنسان على مستوى الفرد والجماعة والإنسانية، وقيام الإنسان بمهامه المختلفة لعمارة الكون وفق الشريعة الإلهية) [1] ، فإن ذلك يعني صياغة الشخصية الإسلامية وفق نسق متكامل من العناصر التي تغذي بناء تلك الشخصية في جميع أبعادها المتفاعلة، بحيث تنهض بمهامها على الوجه الأكمل. وليست تلك العناصر سوى مجموعة القيم التي تحقق للإنسان إنسانيته ككائن حظي بالتكريم من الله عـز وجـل، هذا التكريم الذي تجسد بمنحة العقل وأمانة الاستخلاف في الأرض.
وما دام الله عز وجل قد جبل الإنسان بفطرة تؤهله للتشكل وفق الأهداف الخيرة، وقابلية السير في خطها المستقيم، فإن القيم التربوية الإسلامية تكون على هذا الأساس هي تلك المفاهيم والمعاني التي يولد [ ص: 69 ] الإنسان بموجبها ولادة ربانية، ويعيش في ظلال طاعة الله وحمل النفس على تنفيذ مراده في هذا الكون .. وإن أبلغ تعبير عن القيم التربوية الإسلامية -على ضوء ما سبق- هو ما تجسده سورة العصر التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: ( والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) (العصر : 1-3) .
هذه الآيات الكريمة تبرز لنا بوضوح الإطار المتكامل لحركة الإنسان وقيامه بعمارة الحياة.. إنها تبين لنا أنه لا مجال للحديث عن القيم الإسلامية إلا بالاستناد إلى الركيزة الكبرى، وهي الإيمان بالله عز وجل. فمن هذا الإيمان، الذي هو القيمة الأعلى والأسمى، تنبثق القيم الأخرى، كما ينبثق النور من الشمس.. فجماع القيم التربوية الإسلامية إنما يرتكز في الصفات والخصائص التي جاءت عقب الإيمان بالله في هذه السورة الكريمة، وهي العمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر...
والسمة التي لا بد من وعيها والتشبع بها -ونحن في معرض الحديث عن التربية الإسلامية- هي أن القيم التربوية الإسلامية هي وحدها المفضية إلى النجاح والفوز، الآيلة بمعتنقها إلى بر الأمان، حتى إذا لمحنا نظاما تربويا يطبعه التخبط والتعثر والعقم، حكمنا على الفور: [ ص: 70 ] أنه ليس نظاما إسلاميا، حتى وإن زعم له ذلك الزاعمون، ذلك أنه (على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناج، هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، هو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه، وكل ما وراء ذلك ضياع وخسارة) [2]
وتقوم هذه الحقيقة على أساس نظري ثابت هو أنه بقدر (ما تكتمل بنية النظرية الاجتماعية، تكتمل بنية النظرية التربوية.. وبقدر ما تتصف النظرية الاجتماعية من الشمول والتكامل والاكتمال والوضوح والعمومية والقابلية للتطبيق، وبقدر ما تخلو من الغموض والتناقض والصراع بين أفكارها وقيمها، بقدر ما تكون النظرية التربوية قادرة على تمثل هذه الصفات والخصائص في معالجة القضايا التربوية المختلفة) [3] والهدف الذي تسعى إليه القيم التربوية الإسلامية، هو إحداث وإنشاء هيئة راسخة في نفس الإنسان، بحيث تتجه به نحو العمل الصالح... والعمل الصالح كما هو واضح من خلال سورة العصر وغيرها من السور والآيات، يشمل كل مكارم الأخلاق، سواء ارتبطت تلك الأخـلاق بتهذيـب النفـس أو شحـذ العقـل وإطلاق طاقـاته، بما يحقق التكامل المنشود من قبيل: الصدق، والإخلاص، والعدل، [ ص: 71 ] والإيثار، والوفاء، وحب الخير للناس، والتعاون، والاعتدال في المأكل والمشرب والإنفاق، والحرص على الوقت من الضياع، وصلة الرحم، ومواساة الضعفاء... إلخ.
ونستطيع أن نخلص من الكلام السابق إلى أنه حتى وإن ظهر لنا في بعض الأحيان بعض النظم التربوية التي تضم قيما شبيهة بالقيم المذكورة، فإن ذلك لا يشفع لها أن تحمل صفة القيم الإسلامية، لأنها تفتقد إلى الأساس الراسخ الذي هو الإيمان الكامل بالله عز وجل، أولا، ولأنها تفتقد إلى الشمول والتكامل والاكتمال والوضوح والعمومية والقابلية للتطبيق، التي تضمنها كلام الدكتور محمد سيد سلطان عن النظرية الاجتماعية.