الفصل الأول: عمارة المدينة المنورة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم
مثلت هـجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة نقطة البداية في تاريخ العمارة الإسلامية، إذ كان لممارسته مهام القيادة في دولة المدينة، أثر في التركيب الداخلي لعمران المدينة، إذ استحدثت وظائف جديدة داخل المدينة، لكي تتلائم مع كونها عاصمة للدولة الإسلامية الناشئة، التي تتخذ الإسلام منهجا، ومنذ ذلك التاريخ بدأ يتبلور فقه البنيان في الحضارة الإسلامية.
* المسجد بعد دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، بركت ناقته عند موضع مسجده، وهو يومئذ مكان يصلي فيه رجال من المسلمين، وكان مربدا [1] لسهل وسهيل [2] ، وهما غلامان يتيمان من الأنصار.. فسام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقالا: نهبه لك يا رسول الله، [ ص: 47 ] فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير، وكان فيه شجر غرقد ونخل وقبور للمشركين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقبور فدرست، وبالنخيل والشجر فقطعت، وصفت في قبلة المسجد، وجعل طوله مما يلي القبلة إلى مؤخرته مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريبا من ثلاثة أذرع، ثم بنوه باللبن، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبني معهم، وينقل اللبن والحجارة بنفسه، ( ويقول:
اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة *** فاغفر للأنصار والمهاجرة )
وذكر الحافظ الذهبي ، أن القبلة كانت في شمال المسجد، لأنه عليه الصلاة والسلام صلى سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ، فلما حولت القبلة استخدم حائط القبلة الأول مكانا لأهل الصفة [3] .. وكان للمسجد ثلاثة أبواب، باب في مؤخرته، وباب يقال له: باب الرحمة، والباب الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعلت عمد المسجد من جذوع النخيل والشجر، وسقفه من الجريد [4] .
ويستخلص من ذلك أن أول وظيفة أحياها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المكان: " وظيفة المسجد " الذي كان مركزا للصلاة والعبادة، إضافة [ ص: 48 ] إلى كونه مركزا سياسيا واجتماعيا وحضاريا، وملتقى علميا.. هـذه الوظائف التي كان يؤديها المسجد، جعلت مكانته أكثر من كونه مكانا للعبادة. فقد أصبح مركز الثقل في المدينة، وحوله تبلورت الأنشطة الاقتصادية بها.
ونستطيع أن نرى في بناء مسجد المدينة، دروسا معمارية مستوحاة من هـدي النبي صلى الله عليه وسلم
الدرس الأول
وهو قاعدة مهمة عند اختيار الأراضي التي تبنى عليها المساجد، وتكون ذات ملكية خاصة، فيجب أن تؤخذ موافقة أصحابها، وأن يتم تقدير ثمنها، فالله طيب لا يقبل إلا طيبا.
والدرس الثاني
في تجهيز الموقع وإعداد مواد البناء، فلقد كان بالأرض عند شرائها نخيل وقبور، فأمر بالنخيل أن يقطع، وبالقبور أن تنقل، وأن يغيبوا الطوب، الذي سوف يستخدم في بناء حوائط المسجد، وبذلك نجده لم ينتظر حتى يتم إعداد الأرض، ثم يأمر بتجهيز اللبن، الذي يحتاج لبعض الوقت ليجف ويصبح صالحا للبناء.. كل ذلك من أجل كسب الوقت، وهذا شبيه بالأسلوب المتبع في عصرنا الحديث، عند وضع الجداول الزمنية لتنفيذ عناصر أي مشروع معماري، حيث يمكن عمل مرحلتين أو أكثر في وقت واحد [ ص: 49 ] إن أمكن ذلك، أو أن يشتركا في جزء من الوقت، مما يوفر في المدة الإجمالية لتنفيذ المشروع.
والدرس الثالث
يعطيه لنا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، وصحابته رضوان الله عليهم، وهم يشاركون بأنفسهم في بناء المسجد، باستخدام المواد المتوافرة في بيئة المدينة المنورة، فاللبن للحوائط، وجذوع النخل للأعمدة، وجريد النخل لسقف المسجد، مما يعطي درسا هـاما في أهمية استعمال مواد البيئة، وتحقيق المشاركة الشعبية، في بناء المشروعات العامة في البيئات الفقيرة.
وقد وصف الشيخ عبد الحي الكتاني ، في كتابه: " نظام الحكومة النبوية، المسمى بالتراتيب الإدارية والولايات الدينية " [5] ، طريقة بناء اللبن في حوائط المسجد النبوي، مشيرا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بناه ثلاث مرات، الأولى بالسميط: وهو لبنة أمام لبنة، والثانية بالضفرة: وهي لبنة ونصف في عرض الحائط، والثالثة بالأنثى والذكر: وهي لبنتان تعرض عليهما لبنتان [6] .. وبذلك نرى اختلاف أسلوب البناء، لما كثر عدد المسلمين، وتمت زيادة مساحة المسجد، [ ص: 50 ] مما يدل على أهمية تطويع أسلوب البناء، ليخدم وظيفة المسجد أو أي مبنى آخر، فكلما كثر عدد المستعملين زاد الاهتمام بمتانة البناء.
والدرس الرابع
يعطيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم أن أقر فعل تميم الداري حينما أسرج المسجد النبوي بالقناديل [7] .. وبذلك يمكن القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشجع أي عنصر معماري جديد يمكن أن يضاف إلى المسجد، ويسهل من أداء وظيفته، وأمر استخدامه.
وهذا النموذج، يبين لنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم عند عمارته لمسجده، ترك حرية الابتكار والإبداع للمسلمين، حسب الزمان والمكان، ولكن في حدود ضوابط الشرع.