مفهوم العقل
في بداية الأمر يحسن بنا، ونحن نتناول العقل بالدراسة والتحليل، أن نعرف العقل تعريفا لغويا واصطلاحيا، حتى يلم القارىء بمفهوم العقل بشكل عام، ودلالته المعنية في هـذا الكتاب.
لقد وردت لفظة عقل في المعجم الوسيط، وبعدة تصريفات منها: عاقلة، عقال، عاقول، عقول، وغيرها. ومن المعاني الواردة، قولهم: عقل عقلا: أي أدرك الأشياء على حقيقتها، والغلام أدرك وميز، ويقال: ما فعلت هـذا منذ عقلت. والعاقل هـو الشخص المدرك. ومن المعاني، أن العقل هـو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه قولهم: الإنسان حيوان عاقل. ومنها ما يكون به التفكير والاستدلال، وتركيب التصورات والتصديقات. كما أن من المعاني الواردة حول موضوع العقل: أنه ما يتميز به الحسن من القبيح، والخير من الشر، والحق من الباطل. كما أن معنى القلب، والحصن، والملجأ، كلها من المعاني المعبرة عن العقل، في بعض الاستخدامات [1] .
أما معجم وبستر Webster فقد أورد معان عدة لكلمة عقل، تحت الكلمة الإنجليزية،Mind ومن هـذه المعاني: الذاكرة، التذكر أو الاسترجاع. وقد تعني ما يفكر به الشخص، أو رأيه في موضوع من المواضيع. ومن المعاني الواردة: أنه يعني الإدراك، الشعور، [ ص: 33 ] الانتباه، الذكاء، الملاحظة. وقد قصرت بعض التعريفات في هـذا القاموس العقل: على ما يمكن التفكير به، أو إدراكه، مما يمكن تصنيفه على أنه جزء من الشعور، إلا أن تعريفا آخر، يضيف الخبرة اللاشعورية ، كعمل من أعمال العقل. والتعريف الشامل الذي ورد في قاموس وبستر هـو طريقة، وحالة، واتجاه للتفكير والشعور، الذي يكون عليه الفرد، وقد وردت معاني مثل الانتباه، الطاعة، الاهتمام، الملاحظة، الاعتراض، الكره، كمعان معبرة عن العقل.
أما المعاجم المتخصصة في التربية وعلم النفس، فتعريف المصطلح فيها يتشعب، بين الذكاء، والفهم، والقدرة العامة، والقدرات المتخصصة، بالإضافة إلى القدرات الشعورية واللاشعورية.
لقد أورد فاخر عاقل تعريفا للعقل: على أنه مجموع السلوك الذكي، بما في ذلك التذكر، والتفكير، والإدراك. وكثيرا ما يستعمل مرادفا للخبرة الشعورية [2] .
في معجمه علم النفس، والتحليل النفسي، أورد الدكتور فرج طه : أن العقل يقصد به الذكاء، أو الذهن، ويستطرد، ويقول: فإن قلنا: إن فلانا له عقل ممتاز، كنا نقصد بأنه على درجة عالية من الذكاء، والفهم، وإن قلنا: فلانا ضعيف العقل، فإننا نقصد أن ذكاءه قاصر وضعية، وإن قلنا: إن فلانا مريض عقليا، فإننا نقصد أنه مصاب بالجنون أو الذهان. ومن مشتقات كلمة العقل التي تناولتها المعاجم، كلمة العقلانية، ويعرفها فرج طه بقوله: إنها موقف فكري، وسلوكي، تجاه قضايا الحياة الاجتماعية والمعرفة، وقضايا العلوم التطبيقية، [ ص: 34 ] ويتمثل في اعتبار العقل هـو القيمة العليا في الحياة، ومعيار كل شيء، ومصدر التوجيه في الحياة، وأننا كأفراد يحكمنا نظام عقلي، يقوم على مجموعة من المبادىء، والمسلمات، والقوانين الأولية، التي تتفق عليها كل العقول السليمة، وإن المبادىء، تتميز بالسمو، والارتفاع، فوق الجزئيات، وفوق اعتبار الزمان والمكان [3] .
في القرآن الكريم، لم ترد كلمة عقل، بصيغتها المباشرة هـذه، ولكنها وردت بعدة صيغ منها عقلوه، تعقلون، يعقلون، نعقل، ويعقلها. وقد وردت فيما يقارب الخمسين موقعا من القرآن الكريم ومعظمها تشير إلى التمييز بين الحق والباطل، وضرورة إدراك الحق والباطل، على حقيقتيهما، وذلك خلال التفكير في ملكوت السماء والأرض، ومخلوقات الله الأخرى. ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون ) ( البقرة : 242) .
( والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) ( النحل : 12) .
وإذا أخذنا مرادفات العقل الأخرى، التي تمت الإشارة إليها سابقا، فإنا نجد القرآن، قد تناولها من مثل: يتفكرون، يتدبرون، والحكمة. وهذه بلا شك تؤكد الحاجة إلى الوعي والبصيرة، فيما يتعامل معه الإنسان مما يحيط به.
تناول العلماء من المسلمين، مفهوم العقل، وعلاقته بالشريعة وأوامرها، ونواهيها، ودوره في توجيه سلوك المسلم، التوجيه السليم والسديد، وذلك من خلال إحاطته بمقتضيات الشريعة ومبادئها، [ ص: 35 ] بالإضافة إلى إدراك للكون، وما فيه من مخلوقات وموجودات. وقد ركز هـؤلاء على الربط، بين العقل والقلب، حتى إن بعضهم يصنف العقل على أنه القلب، وذلك لأن القلب هـو الذي يميز بين الحق والباطل، والخير والشر. يقول الغزالي : إن العقل يعني العلم بحقائق الأمور فيكون عبارة عن صفة العلم، الذي محله القلب أما المعنى الآخر الذي يراه الغزالي: فهو أنه: ( المدرك للعلوم وأعني به القلب ) [4] .
ابن القيم تناول مفهوم العقل من خلال علاقته بالشريعة، وفي هـذا الشأن يقول: ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة، الذي لا يعلم لهم مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها، وجودا وعدما، كما أن المعقول الصحيح، دائر مع أخبارها وجودا وعدما، فلم يخبر الله رسوله بما يناقض صريح الفقهاء ولم يناقض الميزان والعدل [5] .
ومن فلاسفة الإسلام، الذين تناولوا العقل بالتعريف، ابن رشد ، وابن سينا ، حيث يعرفه الأول: بأنه قوة تجريد من شأنه أن ينتزع الصور من الهيولي ، ويتصورها مفردة، على كنهها، لا ظاهرها، وهناك صورا عديدة للعقل، منها العقل بالفعل، والعقل بالقوة، والعقل بالملكة. ابن سينا يعرف العقل القدسي: بأنه ( كالعقل الهيولاني، يكون فيه شديد الاتصال بالعقل الفعال، كان كل شيء من نفسه ) [6] . الحارث المحاسبي يعرف العقل: بأنه ( غريزة وضعها الله سبحانه وتعالى في أكثر خلقه، [ ص: 36 ] لم يطلع عليها العباد، بعضهم من بعض، ولا اطلعوا عليها من أنفسهم، برؤية ولا بحس، ولا ذوق، ولا طعم، وإنما عرفهم الله إياها ) [7] .
هذا وقد وردت أقوال كثيرة حول العقل على ألسنة سلف هـذه الأمة، ومنها قول معاوية : إن العقل عقلان عقل تجارب، وعقل فطرة. كذلك يروى قولهم: لا تنظروا إلى عقل الرجل في كلامه، ولكن انظروا إلى عقله في مخارج أموره. كذلك من الأقوال ما يربط بين العقل والحلم، وطول النظر، والتمعن، بالإضافة إلى التجارب، كمحك، يصقل من خلاله العقل، وينضج.
وأورد ابن الجوزي بعض الأقوال حول العقل، حيث ورد: أن بعضهم يعتبره قوة، يفصل بها بين حقائق المعلومات، أما آخرون فيرون: أن العقل نوع من العلوم الضرورية، وهو العلم بجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات، ورأي ثالث يصف العقل: على أنه جسم شفاف. وقد سئل أعرابي عن العقل فقال: إنه لب اغتنمته بتجريب [8] .
علم النفس الحديث، في معالجته للعقل، تأثر بالمدارس المختلفة التي يتبناها، وينتمي لها الباحثون، الذين تناولوا موضوع العقل. وقد انعكس ذلك بشكل واضح على الاتجاهات العامة، التي تحكم عملية التناول، [ ص: 37 ] فمن قائل بالوراثة، ومن قائل بالخبرة والاكتساب، وآخر يرى المزج بين الإثنين، وذلك عند الحديث عن الذكاء، الذي يعبر به عن العقل. وقد تعددت التفسيرات التي أخذ بها علماء النفس، لمفهوم الذكاء، الذي يعبر به عن العقل، فمن نظرة فلسفية بحتة، تعتمد مفهوم الاستعداد، كأساس لتفسير مفهوم الذكاء، وهذه النظرة استمرت ولفترة غير قصيرة مسيطرة على معظم الكتابات، وهي في أساسها تعود إلى مفهوم الارتباط، والذي يقوم على ثلاثة قوانين أساسية هـي: الاقتران، التشابه، والتضاد. وقد توالت تفسيرات علماء النفس للذكاء، وقدم هـربرت سبنسر المفهوم البيولوجي ، حيث إن العقل يحوي جانبين أساسيين، وهما الجانب المعرفي، والجانب الوجداني..
أما الجانب المعرفي: فهو ما يتضمن عمليات التحليل، والتمييز، والتركيب، والتكامل، مما يؤدي في النهاية إلى حسن التكيف، بين الفرد وبيئته التي يوجد فيها..
ويعتبر جان بياجيه أحد علماء النفس المحدثين، الذين يتبنون وجهة النظر البيولوجية كأساس لتفسير الذكاء، وذلك من تأكيده على مفهوم التوافق من خلال عملية التمثيل والمواءمة. ويعني التمثيل: التغيرات التي تطرأ على بعض جوانب البيئة، أما المواءمة فتعني: التغيرات التي تطرأ على الكائن الحي نفسه، وهذه الأشياء تحدث لكي تتم عملية التوافق أو التكيف بحد ذاتها..
ويرى بياجيه: أنه يوجد بين عمليتي التمثيل والمواءمة، [ ص: 38 ] ما أسماه بالتراكيب العقلية Schemas وهي عبارة عن : ( تنظيمات تظهر خلال أداء الوظيفة، والتي يستدل عليها من المحتويات السلوكية المختلفة، والتي تحدد هـذه التنظيمات طبيعتها ) [9] .
ويؤكد بياجيه أن كل عملية عقلية تتضمن مجموعة من العلاقات والدلالات، كما أن كل صورة إجمالية، أو عامة، تتسق مع الصور الإجمالية. ولا شك أن مفهوم الدلالات، والصور الإجمالية، عند بياجيه، يجب أن تثير الفضول فينا، حول ما تتضمنه البيئات، التي نتواجد فيها من مثيرات، يتعمد عرضها وبتكرار، وذلك بهدف إيجاد تكوين عقلي من نوع معين، أو مطبوع بطابع خاص، يصعب تغييره فيما بعد، أو تحويله عن هـذه الجبلة، التي هـوعليها..
وقد عني بعض علماء النفس بتفسير الذكاء، أو النشاط العقلي، من خلال النظرة الفسيولوجيه ، ومن هـؤلاء العلماء: لا شلي ، وشرنجتون ، اللذان يؤكدان على هـرمية الوظائف العقلية، حيث يفترض أن المخ يعمل ككل، ولا يوجد جزء من المخ يعمل منفصلا عن باقي الأجزاء مما يمكن معه القول: بأن النشاط الكتلي للمخ، مشابه لمفهوم العامل العام [10] ومن الاجتهادات حول العقل، أو التنظيمات العقلية، ما قال به سبيرمان ، والذي يرى أن النشاط العقلي يقوم في الأساس على عامل عام بالإضافة إلى عوامل نوعية متعددة، كل منها يخص مظهرا من مظاهر النشاط العقلي.. [ ص: 39 ] أما ثورندايك ، فينظر للذكاء على أساس، أنه مكون من أجزاء وعناصر دقيقة، ومنفصلة، حيث يمثل كل عنصر أداء عقليـا مستقلا عن غيره. وقد اختلف ثيرستون مع سبيرمان في بداية الأمر، حول طبيعة النشاط العقلي وقال: إن النشاط العقلي يقوم على ما أسماه بالقدرات الأولية، مثل القدرة المكانية، العددية، اللفظية، الإدراكية، قدرة الاستدلال، والقدرة على التفكير الاستنباطي، وغيرها. إلا أنه في نهاية الأمر أخذ بمفهوم القدرة العامة، والذي يتكون مـن خلال القدرات، أو العوامل الأولية، وينحو جيلفورد منحى آخر، حين يرى أن النشاط العقلي، يقوم على ثلاث ركائز وهي: المحتوى، العمليات، والنواتج، وهذه الركائز تؤدي بدورها إلى إيجاد ما يزيد على 120 قدرة كمحصلة نهائية للنشاط العقلي.
وقد برز في التراث النفسي، مفهوم الذكاء الاجتماعي، والذي يعني: القدرة على فهم الرجال، والنساء، والفتيان، والفتيات، والتحكم فيهم وإدارتهم، بحيث يؤدون بطريقة حكيمة في العلاقات الإنسانية [11] .
وقد التصق بمفهوم الذكاء الاجتماعي، مفاهيم أخرى، من مثل التعاطف والذي يعني: فهم الأحداث الإنسانية، والاجتماعية، والتفاعل معها، سواء بالإيجاب أو بالسـلب، وهذا التفاعل يعتمد على ما يمكن أن يحدثه المثير الاجتماعي، من إثارة، فيما يترتب عليها من وعي حول طبيعة هـذه المثيرات، مما يقود في نهاية المطاف إلى تحديد موقفنا نحن من هـذه المثيرات، وردود أفعالنا نحوها. [ ص: 40 ]
ويرى برونر أن الذكاء الاجتماعي، من الممكن، أن ينظر له من خلال ثلاثة إطارات أولها: الانفعالات كما تلاحظ، وثانيها سمات الشخصية كما تبدو من خلال الأداء المميز، أما الإطار الثالث: فهو ما يكونه الفرد من انطباعات، حول المثيرات التي يتعرض لها.
وعليه يمكن القول: إن الذكاء الاجتماعي، هـو: قدرة على تذكر أو تجهيز المعلومات،
( تفكر ) عن الأشخاص الآخرين، فيما يتصل بتحركاتهم، وأفكارهم، ومشاعرهم، واتجاهاتهم، وسماتهم الشخصية [12] . وهي قدرة لها أهمية قصوى، عند من يتعاملون مع الآخر مثل الأطباء، الساسة الإعلاميين، المحامين.. إلخ.
وعليه يكون تعريفنا للعقل العربي: بأنه ما يحمله العقل العربي من آراء وأفكار، وتصورات، حول ذاته، وأمته، وواقعه، والعالم أجمع، وكل قضايا الحياة اليومية، ذات الطابع الفردي، أو الجماعي، مهما كانت الثقافة التي كونته، سواء أصلية أو مستوردة. بالإضافة إلى المبادىء والقواعد العقلية، التي توجه النشاط، والحركة، والفاعلية، سواء تم ذلك بشكل شعوري، أو لا شعوري. [ ص: 41 ]