المدرسة الإسلامية
والمقومات الرئيسية للشخصية الإسلامية
المحور الذي يدور حول عمل المدرسة الإسلامية هـو (إخراج الإنسان المسلم) والإنسان هـو الإنسان العامل الذي يقوم بـ (العمل الصالح) ويتقنه، لأن العمل الصالح المتقن هـو علة الخلق، ومادة الابتلاء والاختبار، في الدنيا، ومقياس النجاة في الآخرة.
( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) (الملك:2)
ولكن ( مفهوم العمل الصالح) لم يبق على شموله وأصالته، وإنما تعرض –خلال عصور المذهبية والجمود ، والاستبداد السياسي والاضطراب الفكري - للتغيير، وتضييق المعنى، وتشويه المحتوى، حتى حصرته الاستعمالات الجارية في الوعظ والتأليف والتدريس والمخاطبات العامة، في دوائر محدودة من العبادات والصدقات والأخلاق الفردية البسيطة.
لذلك لا بد من إعادة النظر في معنى ( العمل الصالح ) ، وإعادة استعماله كما ورد في مصادر الإسلام الأساسية المتمثلة في القران والسنة.
معنى (العمل الصالح ) في التربية الإسلامية
ورد لفظ العمل في القران الكريم في 359 موضعا، وفي جميع هـذه المواضيع يلحق بـ (العمل) إحدى صفتين اثنين: إما صفة الصلاح، أو صفة السوء، فيوصف العمل بأنه (عمل صالح ) أو (عمل سوء) . [ ص: 41 ]
و ( العمل الصالح ) هـو الترجمة العلمية، والتطبيق الأكمل للعلاقات، التي حددتها فلسفة التربية الإسلامية بين الإنسان والخالق، والكون والحياة، والإنسان والآخرة [1] ، ويقدم القران نماذج وأمثلة للعمل الصالح نذكر منها:
*العمل السياسي ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ) (الأنفال: 72) .
*والعمل العلمي والثقافي: ( أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هـودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ) (البقرة: 140) .
*العمل الزراعي: ( ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ) (يس: 35) .
*العمل المهني: ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ) (الكهف: 79) .
*العمل الصناعي: ( أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحا ) (سبأ: 11) .
*العمل الوظيفي: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها ) (التوبة: 60) .
*العمل الفكري التربوي: ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل [ ص: 42 ] صالحا ) (فصلت: 33) .
*العمل الاقتصادي: ( يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هـم يحزنون ) (البقرة: 276-277) .
*العمل القضائي: ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ) (البقرة: 283) .
*العمل الاجتماعي: " فقد تحدثت الآيات في سورة البقرة (230-236) عن علاقات الرجل والمرأة وتنظيم الأسرة، ومسئوليتها، ثم ختمت الحديث بأمثال قوله تعالى ( الله بما تعملون بصير -233 والله بما تعملون خبير-234 )
*العمل العسكري: ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا ) (النساء: 94) .
*العمل الديني والأخلاقي: والأمثلة على ذلك كثيرة جدا.
وأخيرا العمل بجميع مظاهره على المستويين الفردي والجماعي مثل :
( وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ) (الأنعام: 60) .
( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ) (يونس:14) .
ويمكن تصنيف جميع أشكال العمل المشار إليها في ثلاثة مظاهر هـي: عمل ديني صالح، وعمل اجتماعي صالح، عمل كوني صالح. [ ص: 43 ] وتعريف ( العمل الصالح ) بهذا الشكل يقودنا الى مبادئ ثلاثة تتصل بالعمل نفسه وهي:
المبدأ الأول: تكامل مظاهر العمل، وعدم فاعلية أي منها دون الآخر، لأن العمل الديني يتضمن أهداف الحياة ومقاصدها، بينما يتضمن العمل الاجتماعي والعمل الكوني الوسائل المناسبة لتحقيق هـذه الأهداف والمقاصد، ولذلك إذا وجدت الوسائل، ولم توجد الأهداف، فإنه لا فائدة من الوسائل. وكذلك إذا وجد العمل الاجتماعي والعمل الكوني، ولم يوجد العمل الديني، فإن العمل غير نافع، ولا مريح، ولذا فهو غير مقبول، ولا معتبر.. وكذلك إذا وجد العمل الديني ولم يوجد العمل الاجتماعي والعمل الكوني، فإن العمل عقيم، لأن الأهداف التي لا وسائل لها يستحيل تحقيقها والوصول إليها.
لذلك كله لا يتصور هـناك مسلم – أو إنسان صالح – بدون عمل. فصورة المؤمن المتنسك العاجز صورة غير إسلامية، وهي بعض رواسب تراث الكهانة، التي سبقت الإسلام، ولذلك أيضا لم يكن الزهد، والورع، والتقوى، انقطاعا عن العمل، وإنما هـي بعض مواصفات (العمل الصالح ) تكسبه طابعه وتميزه عن (العمل السوء) . والحديث النبوي يقرر أن الزهد ليس بتحريم الحلال، وإضاعة المال، وإنما الزهد أن يكون الإنسان أوثق بما في يد الله، منه مما في يده، فيكون عليه البذل ولا يتردد في التضحية.
والمبدأ الثاني: أن (العمل الصالح ) لا يقتصر على جلب الخير النافع، وإنما يتعداه إلي محاربة الشر الضار، فالعمل الصالح إذن من حيث أثره ينقسم إلي قسمين: عمل هـدفه جلب النافع للإنسان والمرضي لله، وعمل هـدفه دفع الضار بالإنسان والمغضب لله.
والإنسان الذي يمارس القسمين من العمل يطلق علية اسم ( الصالح المصلح ) ، والذي يقتصر على القسم الأول يطلق علية اسم ( الصالح ) فقط. والقيام بأحد القسمين لا يغنى عن الآخر، لأن القسم الأول يفيد في [ ص: 44 ] النماء والتقدم، بينما القسم الثاني في منع أسباب الفساد والتأخر.
والإنسان الصالح المصلح هـو النموذج الذي تسعى التربية الإسلامية الى إخراجه. ولذلك جاء في القران الكريم أن الخراب ينزل بالأمم التي تضم من أفراد وجماعات صالحين مصلحين، ولكن الخراب ينزل بالأمم التي تضم أفراد وجماعات صالحين غير مصلحين. ( وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ) (هود: آية 117) , ( وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون ) (الأعراف: 168) .
والمبدأ الثالث: أن ( العمل الصالح ) من حيث صفته، ينقسم الى قسمين: عمل أخلاقي، وعمل ناجح.. واجتماع الصفتين أمر ضروري في التربية الإسلامية؛ لأن العمل إذا كان أخلاقيا ولكن غير ناجح، لا يجلب منفعة ولا يدفع ضررا، وإذا كان ناجحا ولكن غير أخلاقي، فإنه يجلب نفعا مؤقتا وضررا.. فإذا اجتمعت الصفتان فيه، كان نافعا غير ضار، والى صفة النجاح أشار علماء الإسلام باسم ( الصواب) وأطلقوا على صفة
( الأخلاق) اسم الإخلاص، واشترطوا أن يكون العمل صائبا مخلصا، فإذا كان صائبا غير مخلصا لم يقبل، وإذا كان مخلصا غير صائب لم يثمر. [2]
لذلك لا يتصور أن يكون هـناك (عمل صالح) غير ناجح، والذين يئولون حديث: ( إنما الأعمال بالنيات ) تأويلا يفصل بين العمل ونتيجة هـم أناس يتأولون الحديث على غير معناه، والذين يبررون الأخطاء، والارتجال، والقصور، بأمثال القول: ليس ضروريا النجاح وتحقيق الأهداف، وإنما المهم هـو العمل، هـم أناس لا يرسخون في مفهوم العمل الصالح، ولا يحيطون بقوانينه.
والمبدأ الرابع: مبدأ النفعية، أي أن العمل مقصود به منفعة العامل. [ ص: 45 ] فالتربية الإسلامية لا تتنكر لمبدأ النفعية أبدا، والذين فصلوا بين العمل والمنفعة، هـم إما أناس مغالون في المثاليات، التي يصعب على الإنسان أن يعيشها،أو أناس متأثرون بمفاهيم تعذيب النفس، وإيرادها المشقات التي احتوت عليها الأديان والفلسفات السابقة على الإسلام، أو أناس قصدوا أن يجردوا العمل الإسلامي من الدوافع التي تدفع إليه وترغب به. ولكن النفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية نفعية أكثر اتصالا بطبيعة الإنسان وفطرته.
وهي أشمل تلبية لحاجاته المادية والنفسية والاجتماعية، وهي مرافقة له خلال الأطوار التي يمر بها خلال رحلته الأخرى، كالبراجماتية الأمريكية ، التي توفر النفعية في ميادين، وتفرز الضرر في ميادين أخرى من حياة الإنسان..
وبالتالي فالنفعية التي توجه إليها التربية الإسلامية لا تقتصر على فرد أو جماعة ثم تلحق الضرر بفرد آخر أو جماعة أخرى.
والقران يقدم أمثله عديدة لمنافع ( العمل الصالح ) فيذكر منها: الأمن، والتمكين في الأرض، والحياة الطيبة، ووفرة البركات والخيرات، والدرجات العالية، والجزاء الحسن، والتمتع بنعم الله، والصحة النفسية والجسدية، والاطمئنان الاجتماعي واليقين، ودخول الجنة، وغير ذلك.. وفي المقابل، يقدم أمثلة عديدة لمضار ( العمل السوء) فيذكر منها : المعيشة الضنك، والإجلاء من الأرض، وتمزيق المجتمعات والأمم، وسقوط المنزلة، والانهيار الاقتصادي، والدمار الاجتماعي، والاضطراب النفسي والفكري، والشقاق والفرقة، والأمراض النفسية والجسدية وغير ذلك. والأمثلة لكل من منافع العمل الصالح ومضار العمل السوء أكثر من أن تحصى، منها قوله تعالى:
( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " .. ) (النحل: 97) .
( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا [ ص: 46 ] الصالحات سواء محياهم ومماتهم ) (الجاثية:21) . والمبدأ الخامس: هـو ضرورة الإعداد والتدريب على ( العمل الصالح ) ، وتوفير بيئته، ومؤسساته، وأساليبه، ووسائله. إذ لا يتصور أن يبرز عمل صالح بدون إعداد وتربية شاملين. ولذلك ورد ( العمل الصالح ) في القران والحديث مقرونا بالعمل والجهد المتواصل، وما يترتب عليهما من إيمان، بينما اقترن ( العمل السوء ) بالجهل والكسل، وما يفرزانه من كفر ونفاق وترف.