معطيات التجربة الميدانية لا شك، أن التحول إلى تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان ، واجه مشكلات عملية قد لا تكون كلها في الحسبان؛ ما هـي المعطيات التي يمكن أن تنعكس من خلال التجربة الميدانية على مناهج وتصورات ووسائل العاملين في الحقل الإسلامي بعد أن اختبرت بعض الاجتهادات، وجربت بعض الوسائل في الواقع التطبيقي.
كانت حركة الإسلام في مرحلة الدعوة تعالج قضايا الإسلام على صعيد النظر. وكان يتيسر عليها أن ترتب صور الأنموذج الإسلامي بطلاقة، وأن تعرضها على الناس، كذلك، في قمة مثالها حتى ترغب الناس في النهضة إليها. وكانت لا تأبه كثيرا بالمشكلات العملية، وللقوى التي يمكن أن تثور حين يتنزل الإسلام على الواقع، ولذلك لم تكن تأخذها في الاعتبار وهي تقدر نظريات المنهج الإسلامي كما تتصوره، وكما تدعو إليه.
فلما بلغنا من بعد الدعوة مرحلة الدولة، أصبح لزاما أن يتنزل الدين، في شعاب أحكامه الفرعية، على الواقع، وبدت لنا من الصورة الواقعية مشكلات ما كانت لتلوح للناظر من قبل، وبدا أن الأحكام تتوارد على الواقع، وتتناسخ وتتعارض مقتضياتها أحيانا، ونشأت حاجة ماسة إلى تصريف الأحكام وترتيب أولوياتها، لأن في تطبيق بعضها ما قد يؤدي إلى تفويت مصالح إسلامية أخرى مقدرة، أو يحدث فتنة تضر بمستقبل الإسلام. وكان لا بد من فقه أدق من الفقه النظرى يرتب أولويات الأحكام، ويناظر بين قيمها المختلفة، ويؤخر ويقدم ويصرف بين هـذا الواقع، هـذه مشكلة طرأت لفقه الإسلام.
وهناك مشكلة أخرى؛ فقد بدا جليا أنه لا يتيسر للجهد البشري - مهما بلغ من الجهاد [ ص: 20 ] والاجتهاد أن يحقق كل أحكام الإسلام دفعة واحدة، ذلك أن هـذا الدين التوحيدي يشمل الحياة كلها، ولا يمكن أن يستوعبه جهد البشر ولا اجتهادهم إلا بمعاناة متطاولة، يتعاون عليها الناس، ويمتد لها الزمان والمكان؛ ولذلك كان لزاما أن نبدأ من أول الطريق، ومن القضايا الجوهرية حتى نتوفر، بما لدينا من جهد، على تحقيقها، وحتى نخصص الطاقة الدينية المتاحة في المجتمع، وهي في أول العهد تظل طاقة محدودة، ونجندها لتأسيس أسس الدين.
ولكن تراثنا النظري - بصوره المثالية للإسلام - كان يعلق الناس - كما ذكرت - بأعلى القيم. وبدا الفرق شاسعا بين ما تحقق من صورة الإسلام وما كان الناس يتخيلون. وحاكم بعض الناس هـذا الواقع المحدود بذلك المثال غير المحدود، وارتابوا في صدق هـذا الواقع.
ومن خلال هـاتين المشكلتين، بدا لنا أن فكر أو فقه مرحلة الدعوة لا بد من أن يتهيأ للتطبيق. ولو أننا استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لقدمنا فكر الإسلام، لا على أنه مثال خيالي لا يكاد يتحقق إلا لمجتمع الملائكة، أو عبر مجاهدات أجيال كثيرة تتكامل فيها منجزات الإسلام، ولعرضناه كما واقعيا، ولبسطنا بين الناس صورة المجتمع السني الأول الذي كان مجتمعا تلوح فيه التطلعات نحو القيم العليا، ولكنه بواقعه الماثل بالفعل كان يحتوي ويشتمل على كثير من القصور عن ذلك المثال، وكانت فيه طوائف على مختلف مراحل الطريق، منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات.
وهذه الصورة الواقعية التاريخية للأنموذج السني الأول تجعل الإسلام أقرب مثالا للناس، وتزيد أملهم في أن يحققوه كما تحقق، ولا توجسهم من بعد مثاليته. ثم لو كان لنا أن نبدأ من حيث انتهينا لعرضنا كذلك فقه الإسلام عرضا دقيقا يركز على مقاصد الدين، وضرورة الترجيح دائما بين تلك المقاصد وترتيبها حتى إذا نشأت حاجات العمل، تزود الناس بفقه لتصريف الأحكام وترتيبها، ولم نبسطها بسطا أفقيا تترتب فيه كلها كأنها سواء.
وأحسب أننا في مرحلة الدعوة، من اهتمامنا بعمومات النظر، من تعويدنا على منقولات الفقه عندما غدا فقه الأحكام مدونات مجردة شيئا ما عن الواقع، تفصل [ ص: 21 ] الأحكام وترتبها لا لأغراض التطبيق بالفعل، أحسب أننا فعلنا شيئا ما بذلك المنهج في أخذ الفقه الديني- والدين واقع وعمل - وهكذا تنزل القرآن ذاته، وكان ينبغي أن يطرح حيث هـو؛ فقها للعمل لا للنظر.