يتوهم بعضهم أن الأدب الإسلامي يتقوقع في أحضان الماضي، وينجذب إلى الموضوعات التاريخية، وقد يرتبط شكلا بها، سواء في مجال القصة أو الشعر أو المسرحية وغير ذلك، وآخرون يظنون أن الأدب الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلى آفاق الإبداع الواسع، ويجوب تصور المستقبل، لالتزامه بقيم ثابتة لها من القداسة ما يجعل الخروج عليها أمرا مستعصيا، وترتب على هـذه الأوهام والظنون نظرة ظالمة إلى الأدب الإسلامي ودوره وطبيعته وتأثيره وقيمه الجمالية، فعزلوا هـذا الأدب - جهلا - عن واقع الحياة والمجتمع، وعن قضايا العصر ومشاكله، وعن أشواق الإنسان الجديد وأحلامه وآماله وآلامه.
وهناك فئة حسنة النية من الكتاب الإسلاميين حسبوا أن الأدب الإسلامي لا يكون بهذه الصفة إلا إذا ترددت كلمة ( إسلام وإسلامي ) صراحة في ثناياه، وإلا إذا كانت نبرة الكاتب بالتوجيه عالية واضحة صاخبة، متناسين أن ذلك قد يضر بالأدب ضررا بليغا، ويمحو الفواصل بين ألوان الأدب المتعارف عليها، وبين فنون أخرى تتعلق بالخطبة والحديث والوعظ، والأخطر من ذلك أن إخوة لنا قد فرضوا حظرا تاما على بعض الموضوعات كالمرأة وعواطفها والعلاقات الجنسية وغير ذلك من الأمور التي تشكل حرجا، بالإضافة إلى الحظر المفروض على بعض العبارات أو الكلمات البذيئة التي يأباها الدين، وتنبو عن الذوق السليم، واتسع نطاق الحظر عند بعض العلماء حتى كاد يعطل وظيفة أدبية هـامة في رسم بعض الشخصيات ودلالة اللفظ عند هـذه النماذج، وارتباطه بنوعيتها وتصنيفها إلى جانب الشر والرذيلة والمروق. [ ص: 100 ]
ولعله من الواضح فيما أسلفنا من قول، أن الأدب من خلال التصور الإسلامي يرتبط أشد الارتباط بالمجتمع.. بالإنسان ومشاكله وعلاقاته المتطورة والمتجددة وبطبيعة الحياة التي تخضع دائما للكثير من المستحدثات وخاصة في هـذا الذي نعيش فيه، وبالعصور التالية قياسا على ما نراه، ولا شك أن هـناك العديد من الأسئلة الحارة التي تضطرم في قلب الحياة هـذه الأسئلة لها علاقة وثيقة بتغير وسائل وأدوات الإنتاج والنمو الصناعي، وبتغير توزيع الثروة، وبميزان القوى الاجتماعية في كل دولة، وموازين القوى العالمية، وبالفلسفات التي انبثقت في القرون الثلاثة الأخيرة، وما قبلها من فلسفات، وبالقيم التي تغيرت تحت إلحاح الدعوات الجديدة المارقة تحت ( شعار الحرية ) القوية الجذابة، وبضعف الوازع الديني في أنحاء كثيرة من المعمورة، كما أن تخلي المرأة عن أوضاعها التقليدية، ومزاحمتها للرجل ومنافستها له، وتخلصها من القيود والأعراف التي عاشت في رحابها قرونا عديدة، وتضخم ظاهرة ما يسمى ( بحقوق المرأة ) ، وخروج هـذه الحقوق من دائرة الأمومة المقدسة، والرسالة المنزلية والأسرية، إلى مجالات السياسة والإنتاج الصناعي والحرية الجنسية، وأندية الفن واللهو والتبرج، كل هـذا وذاك أوجد واقعا جديدا أكثر حدة وشراسة، وبالتالي أكثر تعقيدا ومشاكل، فكان لا بد أن تضج في مختلف الأنحاء تساؤلات ملحاحة، شغلت رجال الدراسات الاجتماعية والنفسية والتربوية والدينية والسياسية والأدبية أيضا.
فهل في الإمكان أن يسد الأديب المسلم أذنيه عن هـذه التساؤلات [ ص: 101 ] الصاخبة؟ إنها ظواهر لا نستطيع تجاهلها، وهي تشكل تعقيدات تحتاج إلى دراسة ونظر وتحليل، والأديب المسلم صاحب موقف، ولن يستطيع أن يؤدي رسالته على وجهها الصحيح إلا إذا واجه تلك المآسي - أعني الظواهر - بشجاعة ووعي وتصور سليم، ومفتاح الحل لأي معضلة يرتكز على نقطتين:
الأولى: توصيف الظاهرة، ومعرفة أبعادها وأسبابها ودوافعها، والخط المتوقع لمسيرتها ونهايتها أو تطورها إلى ما هـو أخطر وأعقد، وإدراك أبعادها الداخلية والخارجية ( النفسية والمجتمعية ) ..
الثانية: التصور الفكري، أو المنهج المناسب، أو العقيدة الراسخة التي يمكن استخدامها في التقويم والتقييم، وفي معالجة هـذه الظاهرة، حتى تستقيم الحياة، وتكون أكثر بهجة وسعادة.
وإذا كان ذلك هـو أسلوب عام في تشخيص الظواهر والتعامل معها، إلا أن طريقة الباحث الاجتماعي، أو العالم النفسي، أو العالم الديني. تختلف عن طريقة الأديب أو الفنان، الذي يتميز بخصوصية في العرض والتصوير والأداء. كما يتميز بالتركيز على جانب معين ينفذ من خلاله إلى هـدفه، حتى يحقق قيمة الجمال الأساسية في الفن، إلى جوار قيمة النفع ( المتعة والمنفعة للمتلقي ) .
إن تضحية الأديب المسلم بقيم الصورة الفنية ( القيم الجمالية ) من أجل المضمون خطر كبير، فإلى جانب إهدار مواصفات الفن، [ ص: 102 ] وخروجه الصارخ عن نسقه، تأتي مشكلة أخرى أعمق أثرا وهي عدم قدرته على إيصال رسالته بالطريقة الفنية الصحيحة، وخروجه من دائرة الفن إلى دائرة أخرى قد تكون الأبحاث، أو الموعظة المجردة، وهذه وتلك ساحات يشغلها غير الأديب، ويقوم بدوره فيها خير قيام.
والأديب الإسلامي لا يستطيع أن يخاصم العصر أو يهرب منه إلى عصور قديمة، والأدب الإسلامي حينما يتناول موضوعا تاريخيا ( قديما ) لا يهرب في الواقع من مجابهة المجتمع أو الحياة الحديثة، إنه يتناول التاريخ وعينه على الحاضر، ففي التاريخ كنوز ثمينة من التجارب الإنسانية العامة الشاملة التي لا تموت بمرور السنين، إنها قضايا الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا قدم الأديب المسلم أنموذجا أو مثلا نابضا عريقا يرمز إلى قيمة من قيم الحق أو الخير أو الفضيلة وغيرها، أو صور صراعا بين خير وشر، وعدل وظلم، وإيثار وأثرة، كان لمثل هـذا العمل الأدبي تأثير إيجابي، لما يتضمنه من جمال ومتعة وفائدة، والتاريخ واقع الأمس، وفيه قضايا متجددة هـي قضايا كل عصر، ومن قال: أن الحرب والسلام، والخير والشر، والحب والكره قضايا عصر بعينه ؟؟ إن المضمون لا يختلف، وإن اختلف أسلوب التناول، بل قد يختلف أو يتحور المضمون أيضا من منظور آني، دون إخلال بقواعد التطور والثبات في الإسلام.
وليس الأديب المسلم بدعا في تعريجه على التاريخ، فكتاب أوروبا وأمريكا قد تناولوا الأساطير الإغريقية عشرات المرات، كل بأسلوبه [ ص: 103 ] الخاص، وفلسفته التي آمن بها، وفعل كتاب العالم الإسلامي المعاصرون الشيء نفسه، حتى سارتر تناول أسطورة أوديب ( الذباب أو الندم ) . كما تناولها توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وغيرهم، وتناول غيرهم أحداث التاريخ تناولا أدبيا أو فنيـا مثيرا، بل إن رواية تاريخية لكاتبة أوروبية ( في أربعة أجزاء ) حققت أعلى أرقام توزيع في العام الماضي، ما نريد أن نقوله: إن تناول المادة التاريخية بعرض جديد أو أسلوب مبتكر، لا يشكل اتهاما ذا قيمة بالنسبة للأدب الإسلامي، لكن استلهام التاريخ لا يعني تجاهل الفترة الزمنية التي يعاصرها الأديب، فالأحداث الجارية، والتفاعلات العنيفة التي تهز المجتمع المعاصر جديرة دائما بالالتفات والنظر، وهي تعني أن الأديب الإسلامي يعايش واقعه، ويحمل هـموم مجتمعه فتؤرق نومه، وتهز وجدانه، وتحرك فكره، وتثير الحيوية والحرارة في قلمه، فيعبر عنها التعبير الفني الجميل، فإذا ما تحدث استمع إليه الناس، وشعروا أنه معهم، وأنه يشاركهم العناء، وأنه يترجم عن قلقهم وآلامهم وآمالهم بأسلوب يجذبهم إليه، فتتأكد تلك العلاقة الفكرية والروحية بين المبدع والمتلقي، ويحدث التجاوب الخلاق الذي يساهم في حفز الهمم، واتخاذ المواقف، وصنع التغيير إلى الأفضل. أما الزعم بأن الأدب الإسلامي ينطلق من مقولات ثابتة لا جديد فيها. وإن الإنسان ( القارئ أو المشاهد ) يحتاج إلى الجديد.. والجديد دائما، وهذه طبيعة الحياة، هـذه المقولة في الواقع تنبئ عن سوء فهم أو سوء نية، فالأديب مهما كان مضمونه - إذا أراد النجاح - لا بد [ ص: 104 ] أن يقدم رؤية جديدة، إن مئات الألوف من القصص والمسرحيات صورت صراع الخير والشر، لكن لكل واحدة منها مذاقها الخاص، ورموز الخير والشر في الأديان السماوية تكاد تكون واحدة، ونرى ذلك في ( قصة الخلق ) - آدم وحواء والملائكة وإبليس - كما نراه في دعوة الأنبياء والرسل إلى الفضيلة والحب والعدل والإخاء، وتترجمه ملايين الأحداث على سطح البسيطة في كل صقع وعصر، ولكن يبقى أمر هـام وحيوي أشرنا إليه فيما سبق، وهو يتعلق بالتطور والثبات في عقيدتنا الإسلامية الكاملة، وهي الرسالة الأخيرة إلى الأرض، وقد حسمت النصوص هـذه القضية الحساسة منذ البداية، اللهم إلا إذا توهمت الهرطقات الضالة أنه في الإمكان العديل لمنهج الله.. حاشا لله..
ولقد وضع الإسلام ضوابط وأطر عامة لمسيرة المؤمن في نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، وفي تناوله لقضايا المجتمع ومشاكله، وفي علاقات الإنسان وممارساته. وفي طبيعه هـذا الكائن الحي الذي يمر بمراحل معينة من النمو، وتجري عليه عوامل القوة والضعف، والخوف والشجاعة، والطمع والقناعة، والصلاح والطلاح، والصحة والمرض، والفطنة والجهل، والهداية والضلال. ويبقى الحق حقـا، والخير خيرا، والشر شرا، على ضوء الهدي الإلهي، والتوجيه النبوي، وأحكام الشريعة الغراء.
ولهذا تقرأ أسطورة ( أوديب ) في أصلها، فتجد لها منحى أو مضمونا عاما، كما تجد فيها تفاوتا في الهدف والأسلوب عند سارتر [ ص: 105 ] أو الحكيم أو باكثير أو غيرهم من كتاب الشرق والغرب، وكل واحد من هـؤلاء يوظف الحدث بطريقة خاصة ليعبر عن قيمة من القيم تتفق وفلسفته أو عقيدته.
ويظل القارئ يحترم قيمة ( الشجاعة ) مثلا، لا كفعل مجرد، ولكن لارتباطها بقيمة من القيم الخالدة، فشجاعة المجاهد في سبيل الله، غير شجاعة اللص أو قاطع الطريق، وشجاعة الطاغية أو القائد السفاح، غير شجاعة صاحب القلب الطاهر، والفكر النير، بل إن شجاعة القلب ( الجسور ) غير شجاعة العقل ( الألمعي ) ورحم الله شوقي إذ يقول:
إن الشجاعة في القلوب كثيرة ووجدت شجعان العقول قليلا
ليست الشجاعة كقيمة تصورا مجردا، ولكنها ترتبط بإيمان الإنسان، وقدرته على التضحية من أجل قضية عليا، والتفاني في إعلاء الحق، وإحياء العدل، وقهر الشر، وحماية المقهورين والمستضعفين، أي جديد وأي قديم في ذلك؟ وكيف نستطيع أن نتصور بقاء حياة إنسانية راقية دون هـذه المقومات الأساسية.إن القيم النابعة من الإسلام هـي المقومات الأساسية لبناء حياة جديرة بأن تعاش.. وعندما تتلبد السحب، وتحارب وتسجن هـذه القيم، فسيكون ذلك بمثابة إعلان عن بداية الشقاء البشري. [ ص: 106 ]
ثم يأتي ذلك الموضوع الحساس الذي يتعلق بالمرأة، وحركتها في المجتمع، إن هـناك واقعا قائما يتعلق بوضعية المرأة، وهناك أمل في تناول هـذه الوضعية بالنظر ومحاولة السمو به على ضوء المعايير الإسلامية الصحيحة.
إذا برزت المرأة في أي عمل أدبي، انصرف الذهن مباشرة إلى غريزة الجنس، وإلى الحب بمعناه المحدود، وإلى العواطف المشتعلة والانغماس في اللذة البهيمية، وما يتبع ذلك من تصورات وانفعالات.
ولقد تمادت الآداب العالمية في إبراز هـذا الجانب الجنسي وركزت عليه، حتى أصبح أمرا يكاد يكون مألوفا لا يثير الدهشة أو الغرابة أو الاشمئزاز، وغرقت السينما أيضا في هـذا البحر الهائج من الإثارة والإغراء، وأصبحت هـناك سينما ومجلات ونجوم تخصصوا في هـذا اللون من الفن الساقط. ووجد ذلك قبولا لدى المراهقين والمنحلين وتجار الرقيق الأبيض، أصبح الجنس سلعة رائجة في سوق الفنون الحديثة، وانتقل الوباء إلى أمم الشرق الإسلامي، وفعل فعله في إتلاف القيم والأخلاق، وسمم العواطف والأفكار، ودمغ الأدب - بالنسبة لعلماء الدين والأخلاقيين والمصلحين - بالفساد والرذيلة.
والمرأة كما يقال نصف المجتمع، وهي كالرجل لها أشواقها وآمالها، وتنتابها عوامل القوة والضعف، والنصر والهزيمة، وتستقيم وتنحرف، ولها مشاكلها كعضو في الهيئة الاجتماعية، لكن رسالتها الأولى ترتبط بواجباتها الزوجية وبالأمومة، ولقد وضع الإسلام لها الإطار [ ص: 107 ] الصحيح الذي تسعد به، وينعكس على المجتمع بالخير والفلاح، كما أوضح لها حقوقها المختلفة في الزواج والطلاق والميراث والتعليم وغير ذلك من الأمور التي لا مجال للاستطراد فيها.
ما هـو موقف الأدب الإسلامي - في تصورنا - حيال هـذه القضية؟
بداهة لا يمكن أن يتجاهل هـذا الجنس، وهو أمر لا خلاف عليه. والمرأة: أم، وابنة، وأخت، وزوجة.. والمرأة: قارئة، وعالمة، وشاعرة، وكاتبة.. والمرأة: طبيبة، ومعلمة، وممرضة، ومصلحة اجتماعية، وغير ذلك من المواقع المختلفة التي حفل بها التاريخ قديما وحديثا، ومن يتصفح التاريخ الإسلامي ومواقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين يستطيع أن يخرج ببعض النتائج الهامة في هـذا الجانب.
هناك المرأة التي جاءت إلى الرسول تشكو من أنها لا تحب زوجها ولا تطيق الحياة معه.. وهناك النسوة اللائي بايعن الرسول صلى الله عليه وسلم ، واللائي ضمدن جراح المصابين في المعركة، ثم المرأة التي وقفت تنافح بسيفها أعداء الله عن رسول الله، ثم المرأة التي جاءت لتعترف بأنها زنت.. أو التي أقيم عليها الحد وقال عنها الرسول: ( لقد تابت توبة لو وزعت على أهل المدينة لوسعتهم.. )
وتلك المرأة الجميلة ( زوجة الشهداء ) التي تزوجها ابن أبي بكر رضي الله عنهما ، فافتتن بجمالها حتى كادت تصرفه عن أداء بعض الصلوات، فأصر أبوبكر على تطليقها من ولده، فعانى من ألم وحزن [ ص: 108 ] شديدين، حتى توسط له بعض الصحابة، فردها إلى عصمته بعد أن وعد بالالتزام بفرائضه وواجباته الإسلامية، وظل وفيا بعهده إلى أن مات شهيدا..
ما أكثر الأحداث التي وردت عن النساء في التراث الإسلامي، ولم يكن نوعا معينا، بل حفل التاريخ بنماذج عديدة، فيها السىء والحسن، والفاسد والصالح، والمستقيم والمنحرف.
حتى الانحراف في المرأة لم يكن ينظر إليه على أنه لعنة أبدية، ولكن ينظر إليه كمرض أو كلحظة ضعف تحتاج إلى من ينهض بها أو يقويها، حتى تبرأ من آثاره ومضاعفاته، وحينما سمع عمر بن الخطاب امرأة تترنم بشعر الشوق والهيام تحت جنح الليل، لم يعاقبها على تصرفها، وإنما ذهب ليسأل عن المدة التي تستطيع المرأة أن تتحملها دون زوجها، وعندما علم بالحقيقة أصدر أوامره - كقائد - بترتيب أمور الجند بحيث يعودون لزيارة زوجاتهم من آن لآخر. إنه اعتراف بالحقيقة وبنوازع البشر واحتياجاتهم الجسدية والروحية، لأن تجاهل مشاعر الإنسان واحتياجاته الضرورية فيه ظلم
فأية أمور تخص المرأة يمكن الحظر عليها في الأدب الإسلامي؟
إن منطقة الحظر ليست كما يظن بعضهم - فهي محدودة جدا.
الأدب الإسلامي يستطيع أن يتناول المرأة من شتى جوانب حياتها، بشرط ألا ينزع بالقارئ أو المتلقي منازع الفتنة والإثارة والإغراء بإرتكاب الموبقات، والواقع أن هـذا كلام قد يبدو مقبولا في إجماله، [ ص: 109 ] لكن الصعوبة قد تأتي عند التطبيق، ومن ثم فهي تتراوح في مدى إمكانية النجاح من كاتب لآخر، لكن الأمر الذي يجب ألا نغفله هـو: إلى أي شيء ترمز شخصية المرأة في أي عمل أدبي؟ قد ترمز المرأة في قصة من القصص مثلا إلى الطهر والنقاء، ومن ثم فإن الكاتب يصورها وهي تقاوم الإغراء، وتتجنب السقوط تظل متمسكة بطهرها ونقائها، وتكتمل الصورة كلما حاول الكاتب إلقاء الضوء على شخصيات ( الشياطين ) الذين يحيطون بهذه المرأة، ويزينون لها الإثم، ويفلسفون الرذيلة، وهي تقف بين نداء ضميرها ودينها وبين وسوسة الشهوة والإغراء، لكنها في النهاية يتحقق لها النصر على الضعف والهوى والفساد..
وقد ترمز شخصية المرأة في قصة أو مسرحية إلى بيئة منحطة، وسلوكيات متهتكة، وتسيب أخلاقي لسبب أو لآخر، والكاتب هـنا لا يستطيع أن يرسم الصورة المعبرة بدقة، إلا إذا انتخب الأحداث والحوار المناسب لهذه الشخصية المتبذلة فلن يكون رداء مثل تلك المرأة إلا ترجمة لانحرافها، ولن يكون حديثها إلا تعبيرا عن فساد ممارساتها وتكوينها، ولن تتسم تصرفاتها إلا بما يثير الاشمئزاز والضيق والنفور. ولا تكون هـذه الصورة دائما دعوة إلى الاقتداء بها، والنسج على منوالها، ووظيفة الكاتب المسلم هـنا أن يختار ما يثير الرفض والإدانة لهذا المسلك المعيب، لا ما يبرر الانطلاق في دنيا الحرية الآثمة، ويرى بعض النقاد الإسلاميين أن على الأدب الإسلامي الاقتصاد في مثل تلك الصور والمشاهد، وهذا رأي يحتاج إلى نظر، لأن الأمر ليس أمر [ ص: 110 ] ( الكم ) ولكن ( الكيف ) ، فقد يكون الاستطراد والإطالة ضرورية لبسط الصورة، وتوضيح الفكرة، وتشريح السلوك المنحل، حتى يكون انطباع النفور قويا شاملا وحتى يستطيع الأديب أن يوصل رسالته إلى المتلقي بوضوح وإيجابية، أما الإيجاز فيما يقتضي التفصيل، أو الإطالة فيما يحتاج إلى اختصار وتركيز، فكلاهما يضر بالعمل الفني، ويؤثر في النتيجة النهائية، أو بلوغ الهدف النبيل الذي يطمح إليه الكاتب المسلم.
في روايتي ( رحلة إلى الله ) كنت أهدف إلى تشريح شخصية قائد السجن وما تميز به من شذوذ وقوة وطغيان، وجعلته محورا تدور حوله كثير من الأحداث، ولم يكن هـذا الطاغية مجرد سجان، بل كان صورة مجسدة لفساد الحكم والإدارة والتربية والمنهج، لقد انعكست عليه كل خطايا العصر، حتى في علاقاته الخاصة، وحياته المنزلية، وصداقاته ونظرته إلى الإنسان والحيوان، كان سيرة حية للضياع والضلال الأكبر الذي يسم الحكم والساسة والرؤية، كما حاولت من خلال تعامله مع الضحايا والشرفاء الذين يرسفون في الأغلال، أن أبين عدالة قضيتهم، وصدق توجههم، واستعذابهم للجهاد والتضحية في سبيل الله، وكان رأي النقاد الإسلاميين وغير الإسلاميين مشيرا إلى نجاح العمل الأدبي شكلا ومضمونا.
ليست القضية إذن عدد السطور أو الصفحات التي تصور اللحظات الساقطة الخاطئة في حياة المرأة الفاسدة أو الرجل الفاسد، ولكنها تعتمد على مدى الأثر الذي يتركه العمل الأدبي في نفس الملتقي كما أسلفنا. [ ص: 111 ]
يقول جونسون لأن الرذيلة يجب أن تكشف، لا بد وأن تثير النفور دائما وهو يضع أيدينا بهذا القول على لب القضية، ليس المهم هـو ( كم ) نكتب في تصوير السلوك الشائن، ولكن المهم هـو ( كيف ) نكتب.. لكي نصل إلى ما سماه ( جونسون ) ( إثارة النفور ) لدى المتلقي.
وقد أشرت إلى قضية ( الجنس ) في ( الإسلامية والمذاهب الأدبية ) وفي بعض المقالات [1] من خلال تحليلي لقصة ( يوسف ) في القرآن الكريم، ومعظم كتب النقاد والمنظرين النقديين الإسلاميين أشاروا إلى القصة نفسها بعد ذلك، حتى أصبح من الصعب على المؤرخين معرفة من الذي بدأ بذلك، ولهذا حرصت في كتابي المشار إليه تسجيل تاريخ مقالتي الأولى بهذا الشأن في مجلة الأفق الجديد ( بالقدس ) . وكانت هـذه المقالة ردا على شاب أردني بعث يسأل عن أدب الجنس.
وقد أثار أيضا موضوع ظهور المرأة على المسرح اعتراضا كبيرا لدى بعض المفكرين الإسلاميين، وقد تعرضت لهذا الأمر في كتابي ( المسرح الإسلامي ) الذي ألقيت بحثا عنه في المؤتمر الثالث للأدب الإسلامي بالرياض، وكان موجز ما رأيته أنه لا مانع من ظهور المرأة على المسرح ، واشترطت بضعة شروط أهمها الزي المحتشم ( الشرعي ) ، وتجنب الإثارة في الحركات المكشوفة والكلمات التي تخدش الحياء، لأن هـناك قضايا وأمورا حساسة لا يمكن أن تقدم إلا من خلال المرأة، [ ص: 112 ] فضلا عن أن ( وضعية ) المرأة في المجتمع وما يلابسها من محاذير وحرج وسلبيات لا يمكن تناولها إلا بالتواجد المباشر.
إذا كانت الخمر محرمة، وهي أم الخبائث، فهل هـذا يمنع من طرح مشكلتها وآثارها النفسية والاجتماعية والأخلاقية، من خلال شخصية سكير عربيد، تتجسد فيه مأساة الخمر؟ وإذا كان قطع الطريق، وقتل البريء جريمة بشعة ممقوتة، أفلا يجب أن نتناول هـؤلاء القتلة والطغاة والمنحرفين من خلال أعمال أدبية، تهدي المتلقي إلى المواقف الإنسانية النبيلة، حيث تحترم حرية الإنسان وحقه في الحياة، فلا يعتدي عليها معتد؟
وإذا كان الزنا - صورة الجنس المنحرف الحرام - وباء خطرا، أفلا يمكن تناوله بما يستحقه من تقبيح وتنفير، وما يصاحبه من مقدمات وإغراءات وسقوط ؟
والجنس في الإسلام له شرائعه وآدابه، وقد تناول ذلك بعض علماء المسلمين بقدر من الصراحة كبير، كذلك وردت بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثال ذلك الحديث الذي يوصي المسلم بألا يرتمي على زوجة كالبهيمة، ولكن يقبلها ويداعبها، وإني لأذكر تلك الحلقة الدراسية التي أقيمت في بيروت ( أواسط السبعينيات ) ، وتحدث فيها أستاذ بالجامعة الأمريكية عن مشكلة الجنس، وقال ضمن ما قال: إن دراساته أثبتت أن الانحرافات الجنسية في مجتمع كلبنان سببها العقائد الدينية وما تفرضه من كبت وغموض، ولما طلبت التعليق أخذت أطرح القضية من منظور إسلامي، وقدمت عددا من التصورات الإسلامية [ ص: 113 ] والنصوص حول موضوع الجنس، ثم ذكرت بعض المؤلفات التراثية التي اهتمت بالموضوع، وكان الحضور - والمحاضر نفسه أيضا - في دهشة بالغة، إذ قالوا: إنهم يسمعون هـذا الكلام لأول مرة، ثم تناولوا أقلامهم ليسجلوا المراجع القديمة التي ذكرتها.
إن تصورنا لموضوع الجنس يجب أن يكون واضحا دون تعقيد أو غموض، لأن القرآن الكريم - كتابنا المقدس - عرضها في قصة طويلة، حيث تحتدم الشهوة في جسد امرأة جريئة، تتحدى القيم والمواضعات الاجتماعية، وتلهث وراء نبي الله يوسف عليه السلام ، لتطفئ شعلة شهوتها وهياجها وتعلن في تبجح أمام نسوة المدينة إصرارها على الإثم.. يقول الله في كتابه العزيز: ( وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هـو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين ) (يوسف: 30 - 35) . [ ص: 114 ]
وللقرآن الكريم نسق متفرد معجز في قصصه ( إن هـذا لهو القصص الحق ) (آل عمران:62) ، ونماذجه تحتذى، لكنها تظل على القمة مثلا أعلى، يتطلع إليها المؤمنون في كل عصر وأرض، ولم يترك القرآن جانبا من جوانب الحياة الاجتماعية، أو مسالك النفس الإنسانية، أو البنية السياسية والاقتصادية إلا وتناولها بمنهج رباني، وأسلوب متميز ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام : 38) ، والرسول صلى الله عليه وسلم " كان خلقه القرآن " وأمتنا أمة القرآن، ومنه نأخذ النور والعون والهداية، وعلى طريقه نصل إلى قيم الحق والخير والجمال، ومن آدابه وأحكامه تتشكل علاقاتنا وأفكارنا وآدابنا، ومن فضل الله أنه كان قرآنا عربيا، وبلسان عربي مبين، وغير ذي عوج، يمتلئ بالعظات والأمثال ( ولقد ضربنا للناس في هـذا القرآن من كل مثل ) (الروم: 58) .
والأدب الإسلامي حينما يحتفي بقضايا المجتمع والعصر. فإنه ينهج نهج القرآن الكريم، وأحاديث نبينا المختار، صاحب الرسالة العظمى عليه الصلاة والسلام .
تبقى علاقة الأديب المسلم بمجتمعه، أية علاقة تلك؟ هـل تعكس هـذه العلاقة استجابة الأديب لواقع المجتمع والتعبير عما يدور فيه؟ إذا كان الأمر على هـذا النحو من التصور، فإن دور الأديب يبدو سلبيا، وقد يبقى الأمر في هـذا المجتمع على ما هـو عليه من فساد، وهنا تنعدم ( المسئولية الأدبية ) أو ( الرسالة ) ، ويصير الالتزام ضربا من الجمود [ ص: 115 ] على ما هـو قائم، وتمجيدا لما هـو راسخ، ومن ثم تزمن العلل الاجتماعية، وتنطمس معالم التغيير الايجابي والتطوير، ويصبح الأدب بحق مجرد تسلية وترفيه، لكن طبيعة الأدب الإسلامي تنفر من هـذه ( الاستاتيكية ) فالإسلام حركة ونمو وفعل متواتر، وصعود دائم، وغايات وآمال تتحقق، لتصب في الغاية الكبرى التي من أجلها كان خلق الإنسان على هـذه الأرض، وما نقوله الآن ليس بدعا.
يقول الأستاذ الدكتور عز الدين إسماعيل في كتابه القيم ( الأدب وفنونه ) [2] :
فالأديب حين يتأثر بالمجتمع، إنما يعكس فهمه هـو على هـذا المجتمع، والأدب تصوير لهذا الفهم ونقل له، أما أن ينقل الأديب حياة المجتمع، أو يكون المرآة العاكسة لحياة هـذا المجتمع، ليتلقاها أو يراها المجتمع ذاته، فعبث ليس من الأدب في شيء.
فالأديب يتخذ لنفسه دائما موقفا فكريا من مجتمعه، ومن هـنا فقط تأتي الفرصة لأن نقول: إن الأديب يؤثر في مجتمعه، إنه يعيش في مجتمعه، ولكنه لا ينتج أدبه إلا في الحالة التي تستقل فيها ذاته عن هـذا المجتمع، متخذة موقفا فكريا خاصا به.
الحد الفاصل بين الأدب العظيم والأدب التجاري غاية في الدقة، فالأديب العظيم يستطيع أن يؤثر في مجتمعه، وأن يكتسب رضاه دون أن [ ص: 116 ] يخضع لإرادة هـذا المجتمع، بل ربما استطاع تحقيق ذلك وهو يقف معارضا للمجتمع، والأديب التجاري وحده هـو الذي يتملق الجماهير، ويخضع لها، ويترك إرادته تذوب في إرادتها، الأول هـو الذي يؤدي دور الأديب الحق في مجتمعه، حين يتأثر بهذا المجتمع ثم يحاول التأثير فيه، وهو تأثير له خطورته، لأن له خطته وهدفه، أما الثاني فلا يمكن أن يكون عامل دفع في مجتمعه، لأنه سيترك المجتمع يدور في نطاق ذاته..
( والمضمون الاجتماعي للعمل الادبى بهذا المعنى لا يستمد في الحقيقة من واقع الحياة في المجتمع، بل من ( موقف ) الأديب الفكري من الحياة في هـذا المجتمع، والمضمون في ذاته قيمة، وهو قيمة تتولد عن موقف الأديب الفكري من القيم الأخرى السائدة في المجتمع) .
( والأديب له فرديته ولا شك، ولكنها الفردية المتحققة بوجود المجموع فيها، وهو كذلك له عبقريته المبدعة، ولكن ما يبدعه لا تكون له قيمة إلا بما يحدث من أثر في المجموعة ) .
إن علاقة الأدب الإسلامي بالمجتمع علاقة وطيدة، وهي تستمد خيوطها من التصور الإسلامي العام، ولا ينظر الأدب الإسلامي إلى المجتمع ( نظرة دونية ) مهما تعاورت ذلك المجتمع نوب الفساد والانحلال والضلال، فالمسئولية المقدسة في عنق الأديب المسلم [ ص: 117 ] تجعله يهدف أول ما يهدف إلى تحقيق السعادة والتوازن النفسي لدى الأفراد، واعتدال الموازين بين فئات المجتمع، والانطلاق من موقف إيماني صحيح والنظر إلى سوءات الحياة الاجتماعية نظرة الطبيب لمريضه، حيث تقتضي هـذه العلاقة الحب والفهم والولوج إلى القلوب لتحقيق الثقة والإيمان والأمل والقناعة الخاصة، ومن ثم يتولد ( الموقف ) الإيجابي.. الموقف الذي يتحول إلى ممارسة وتغيير للأفضل. [ ص: 118 ]