تقديم بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هـادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، وبعد:
فهذا الكتاب التاسع في سلسلة (كتاب الأمة ) التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر (أدب الاختلاف في الإسلام ) للدكتور طه جابر فياض العلواني ، يأتي مساهمة جديدة في تحقيق الوعي الثقافي ومحاولة لرأب الصدوع في البناء الإسلامي، ومعالجة جذور الأزمة الفكرية التي أورثتنا الخلاف والتآكل الداخلي، [ ص: 7 ] وإيقاظ البعد الإيماني في نفوس المسلمين بعد أن كاد يغيب عن حكم علاقاتنا وتوجيهها الوجهة الصحيحة بسبب من الفهم المعوج والممارسات المخطئة ومن ضغوط المجتمعات غير الإسلامية، ذلك أن حضور البعد الإيماني وتحقق الفهم السليم هـو الضمانة الحقيقية لشرعية علاقاتنا، والملاذ الأخير لتصفية خلافاتنا ونزع أغلال قلوبنا، فقد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل. لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم أننا افتقدنا الموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب لهذا العلم وتلك المعرفة؛ إننا اكتسبنا المعرفة وافتقدنا خلقها، وامتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية، وما أكثر ما فوتت علينا خلافاتنا حول مندوب أو مباح أمرا مفروضا أو واجبا، لقد أتقنا فن الاختلاف وافتقدنا آدابه والالتزام بأخلاقياته، فكان أن سقطنا فريسة التآكل الداخلي والتنازع الذي أورثنا هـذه الحياة الفاشلة وأدى إلى ذهاب الريح، قال تعالى:
( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) [الأنفال: 46]
ولقد حذرنا الله تعالى من السقوط في علل أهل الأديان السابقة، وقص علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال:
( ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) [الروم: 31-32].
واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادا عن أي هـدي للنبوة أو انتساب لرسولها صلى الله عليه وسلم حين قال تعالى: [ ص: 8 ]
( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ... ) [الأنعام: 159]
ذلك أن أهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم وضالة معرفة، وإنما كان هـلاكهم؛ لأنهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم، قال تعالى:
( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ... . ) [آل عمران: 19].
فهل ورثنا علل أهل الكتاب بدل أن نرث الكتاب؟
وهل ورثنا البغي بدل أن نرث العلم والمعرفة ونلتزم بأخلاقهما؟
إن الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل أهل الكتاب التي كانت سببا في هـلاكهم ونسخ أديانهم وبقاء قصصهم وسائل إيضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك أنه لا سبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم أصحاب الرسالة الخاتمة، وإنما هـي الأمراض التي لا تقضي على الجسم نهائيا، فإما أن تستمر فتعيش الأمة حالة الوهن الدائب، وإما أن تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وإيقاف التآكل الداخلي، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة.
إن ما يعانيه عالم المسلمين اليوم لا يخرج عن أن يكون أعراضا للمشكلة الثقافية وخللا في البنية الفكرية التي يعيشها العقل المسلم، وآثارا للأزمة الأخلاقية التي يعاني منها السلوك المسلم، وما من سبيل إلى خروج إلا بمعالجة جذور الأزمة الفكرية وتصويب الفهم وإعادة صياغة [ ص: 9 ] السلوك الخلقي، كضمانة ضرورية، وإلا كنا كالذي يضرب في حديد بارد.
ولا شك أن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية إلى حد بعيد، إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس أصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك أن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بين الناس بفروقهم الفردية - سواء أكانت خلقية أم مكتسبة - وبين الأعمال في الحياة تواعد والتقاء؛ وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات الخ ... ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ) [هود: 118].
من هـنا نقول: إن الاختلاف بوجهات النظر بدل أن يكون ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر،ورؤية الأمور من أبعادها وزواياها كلها، وإضافة عقول إلى عقل، انقلب عند مسلم عصر التخلف إلى وسيلة للتآكل الداخلي والإنهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الأمر أن يصل ببعض المختلفين إلى حد التصفية الجسدية، و إلى الاستنصار والتقوي بأعداء الدين على صاحب الرأي المخالف، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد، فكثيرا ما يعجز الإنسان عن النظرة الكلية السوية للأمور،والرؤية الشاملة للأبعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه إلى [ ص: 10 ] درجة لا يمكن معها أن يرى شيئا آخر أو إنسانا يرى رأيا آخر؛ وقد تصل به إلى أن يرى - بمقايسات محزنة - أعداء الدين أقرب إليه من المخالفين له بالرأي من المسلمين الذين يلتقون معه على أصول العقيدة نفسها...
ولعل في الحادثة التاريخية الشهيرة - ذر الاختلاف بقرنه، وفقد آدابه، وفرقت بعض طوائف الأمة المسلمة دينها الجامع - ما يلقي بعض الأضواء التي قد تكون ذات مغزى لحياتنا اليوم إلى حد بعيد...
(يروى أن واصل بن عطاء أقبل في رفقة فأحسوا الخوارج ، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هـذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعوني وإياهم، وكانوا قد أشرفوا على العطب. فقالوا: شأنك. فخرج إليهم، فقالوا: ما أنت وأصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد أجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه أحكامهم، وجعل يقول: قد قبلت أنا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله تبارك وتعالى: ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ) فأبلغونا مأمننا، فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا: ذاك لكم. فساروا بأجمعهم حتى بلغوا المأمن ) (الكامل في اللغة والأدب للمبرد: 2/122 ) .
لقد وصلت حدة الاختلاف إلى مرحلة أصبح المشرك معها يأمن على نفسه عند بعض الفرق الإسلامية التي ترى أنها على الحق المحض أكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد، حيث أصبح لا سبيل معها للخلاص من التصفية الجسدية إلا بإظهار صفة الشرك!! [ ص: 11 ]
إنه الاختلاف الذي يتطور ويتطور وتتعمق أخاديده فيسيطر على الشخص ويتملك عليه حواسه إلى درجة ينسى معها المعاني الجامعة والصعيد المشترك الذي يلتقي عليه المسلمون، ويعدم صاحبه الإبصار إلا للمواطن التي تختلف فيها وجهات النظر، وتغيب عنه أبجديات الخلق الإسلامي، فتضطرب الموازين، وينقلب عنده الظني إلى قطعي، والمتشابه إلى محكم، وخفي الدلالة إلى واضح الدلالة، والعام إلى خاص، وتستهوي النفوس العليلة مواطن الخلاف، فتسقط في هـاوية تكفير المسلمين، وتفضيل غيرهم من المشركين عليهم...
وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التي محلها أهل النظر والاجتهاد، على أيدي المقلدين والأتباع إلى ضرب من التحزب الفكري، والتعصب السياسي، والتخريب الاجتماعي تؤول على ضوئه آيات القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتصبح كل آية أو حديث لا توافق هـذا اللون من التحزب الفكري إما مؤولة أو منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود إلينا مقولة الجاهلية: (كذاب ربيعة أفضل من صادق مضر ... ) .
ولعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم إلى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد أن الصواب والزعامة وبناء الكيان إنما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الأمر الذي قد يتطور حتى يصل إلى الفجور في الخصومة والعياذ بالله تعالى.
إننا قلما ننظر إلى الداخل؛ لأن الانشغال بعيوب الناس، والتشهير [ ص: 12 ] بها، والإسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والأثر يقول: (طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ) .
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، إنهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا؛ لأن وحدة القلوب كانت أكبر من أن ينال منها شيء، إنهم تخلصوا من العلل النفسية وإن أصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بطلعته عليهم وأخبرهم أنه من أهل الجنة، هـو الذي استكنهوا أمره وعمله فتبين أنه لا ينام وفي قلبه غل على مسلم... أما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فإن معظم مظاهر التوحد والدعوة إليه والانتصار له إنما هـي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرا عن غيرنا والله تعالى يقول: ( وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) [الأنعام: 120]. فالعالم الإسلامي بعد أن كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله أصبح اليوم سبعا وثمانين دويلة أو يزيد، والاختلافات بينهم لا يعلم مداها إلا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة. وليس واقع بعض العاملين للإسلام اليوم - الذين تناط بهم مهمة الإنقاذ - أحسن حالا من مؤسساتهم الرسمية..
إن أزمتنا أزمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، والأمة المسلمة عندما سلم لها عالم أفكارها، وكانت المشروعية العليا الأساسية في حياتها للكتاب والسنة استطاعت أن تحمل رسالة وتقيم حضارة على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف المادية، فكان مع العسر يسر... ذلك أن [ ص: 13 ] الحيدة عن الكتاب والسنة موقع في التنازع والفشل، قال تعالى: ( وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ... ) [الأنفال: 46]. لقد أوقف الإسلام التشرذم والتآكل الداخلي ووجه العرب وجهة الإله الواحد الحق وألغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة إلاهها الذي تتجه إليه.
أما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة فإنهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الأشياء، ومع ذلك انقلبوا إلى أمة مستهلكة على مستوى الأفكار والأشياء معا؛ لأنهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، وأصاب الخلل بنيتهم الفكرية.
من هـنا نقول: لا بد من إعادة الصياغة، وإعادة الترتيب المفقود لفكر المسلم؛ ولا سبيل إلى ذلك إلا بالرجوع إلى كتب الأصول، حيث وضع علماؤنا الضوابط والقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي وضمان مساره، واقترن العلم عندهم بأخلاقه... وتنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الأمة وقواسمها المشتركة، والمنهج التربوي الذي يسلحها بأخلاق المعرفة، وإبراز النقاط الجامعة واعتبار فترات الرفض والخروج وكتب الخلافيات حالات مرضية لا يعتد بها.
من هـنا يأتي هـذا الكتاب في وقت أحوج ما يكون المسلمون إليه، ومساهمة طيبة في إغناء هـذا الموضوع الهام والخطير حيث يبصر المثقف المسلم بشكل عام بشيء من مناهج العلماء في الاستنباط، وبالأصول التي بنى عليها هـؤلاء العلماء اجتهاداتهم ومبتنى اختلافاتهم؛ ليعلم أن هـذه الاختلافات إنما تحكمها ضوابط وقواعد وأصول لا يحسنها كل من أراد [ ص: 14 ] التطاول على الاجتهاد دون امتلاك أداته، وتنتظمها أخلاق وآداب، ويحفظها من الجنوح والخروج وازع ديني..
لقد قدم نماذج على أرفع المستويات من سيرة السلف الصالح للاقتداء والتأسي قبل أن تنقلب المدارس الاجتهادية على أيدي المقلدة مذاهب سياسية وتحزبات فكرية؛ وقد أعان المؤلف على ذلك تخصصه في العلوم الإسلامية وأصول الفقه، ولا شك أن الكتاب في بعض جوانبه قد غلبت عليه الصفة العلمية الأكاديمية، ولا شك عندنا أنها ضرورة لازمة، خاصة بالنسبة لأولئك المثقفين من المسلمين - بشكل عام - الذين لم تتح لهم ظروفهم الاطلاع على شيء من الأصول الشرعية، لذلك يمكن القول:
إن هـذا الكتاب يمكن أن يكون كتابا معلما إلى حد بعيد، وإن كنا نعتقد أن الاطلاع على هـذه المناهج والآداب لا يكفي لحل مشكلة المسلمين ومعالجة أزمتهم الفكرية، بل لا بد مع ذلك من التربية العملية والتدرب على آداب الخلاف والأخلاق التي يجب أن تحكمه...
ولا يفوتنا هـنا أن نشيد بالروح الإسلامية في الأخوة والتعاون التي لمسناها من المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن حيث آثرنا بهذا الكتاب ليكون في سلسلة (كتاب الأمة) إيمانا منه بوحدة الغاية والقصد، والله نسأل أن يلهم الجميع الإخلاص في العمل والسداد في الرأي، إنه الهادي إلى سواء السبيل. [ ص: 15 ]