[ ص: 72 ] باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي اعلم أن هذا الباب مهم جدا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه ، وقد صنف في هذا جماعة من أصحابنا منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي ، ثم ثم الشيخ الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي أبو عمرو بن الصلاح ، وكل منهم ذكر نفائس لم يذكرها الآخران ، وقد طالعت كتب الثلاثة ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم ، وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام الأصحاب وبالله التوفيق .
اعلم أن ، كبير الموقع ، كثير الفضل ، لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقائم بفرض الكفاية ولكنه معرض للخطأ ; ولهذا قالوا : المفتي موقع عن الله تعالى ، وروينا عن الإفتاء عظيم الخطر ابن المنكدر قال : العالم بين الله تعالى وخلقه ، فلينظر كيف يدخل بينهم . وروينا عن السلف وفضلاء الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرفا تبركا ، وروينا عن قال : أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 73 ] يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا ، وهذا إلى هذا ، حتى ترجع إلى الأول . وفي رواية : ما منهم من يحدث بحديث ، إلا ود أن أخاه كفاه إياه . ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا . عبد الرحمن بن أبي ليلى
وعن ابن مسعود رضي الله عنهم من أفتى عن كل ما يسأل فهو مجنون . وعن وابن عباس الشعبي والحسن وأبي حصين بفتح الحاء التابعيين قالوا : إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على رضي الله عنه لجمع لها أهل عمر بن الخطاب بدر . وعن التابعي : أدركت أقواما يسأل أحدهم عن الشيء فيتكلم وهو يرعد ، وعن عطاء بن السائب ابن عباس ومحمد بن عجلان : إذا أغفل العالم ( لا أدري ) أصيبت مقاتله . وعن سفيان بن عيينة وسحنون : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما . وعن وقد سئل عن مسألة فلم يجب ، فقيل له ، فقال : حتى أدري أن الفضل في السكوت أو في الجواب . وعن الشافعي سمعت الأثرم : يكثر أن يقول : لا أدري ، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه . وعن أحمد بن حنبل : شهدت الهيثم بن جميل سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري . وعن مالكا أيضا : أنه ربما كان يسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها ، وكان يقول : من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب . وسئل عن مسألة فقال : لا أدري ، فقيل : هي مسألة خفيفة سهلة ، فغضب وقال : ليس في العلم شيء خفيف . وقال مالك : ما رأيت أحدا جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في الشافعي أسكت منه عن الفتيا . وقال ابن عيينة لولا الفرق من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت ، يكون لهم المهنأ وعلي الوزر . وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة . قال أبو حنيفة : الصيمري : قل من حرص على الفتيا ، وسابق إليها ، وثابر عليها ، إلا قل توفيقه ، واضطرب في أموره . وإن كان كارها لذلك ، غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة ، وأحال الأمر فيه على غيره ، كانت المعونة له من الله أكثر ، والصلاح في جوابه أغلب ، واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : { والخطيب } لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها