ذكر ورود كتاب
المتوكل بمحنته أولا ، ثم تجاوزه له وإعادته إلى العسكر ثانيا .
حدثنا
محمد بن جعفر ،
والحسين بن محمد ،
وعلي بن أحمد ، قالوا : ثنا
محمد بن إسماعيل بن أحمد ، ثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16207أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل ، قال : " لما توفي
إسحاق بن إبراهيم ومحمد ابنه وولي
عبد الله بن إسحاق كتب
المتوكل إليه أن وجه إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل : إن عندك طلبة أمير المؤمنين ، فوجه بحاجبه مظفر وحضر معه صاحب البريد ، وكان يعرف
بابن الكلبي ، وكتب إليه أيضا فقال له
مظفر : يقول لك الأمير قد كتب إلي أمير المؤمنين أن عندك طلبته ، وقال له
ابن الكلبي مثل ذلك ، وكان قد نام الناس فدفع الباب - وكان على أبي إزار - ففتح لهم الباب وقعد على بابه ومعه النساء ، فلما قرأ عليه الكتاب قال لهم : إني ما أعرف
[ ص: 207 ] هذا ، وإني لأرى طاعته في العسر واليسر والمنشط والمكره والأثرة ، وإني
nindex.php?page=treesubj&link=19592_29471_27705_32024_32484أستأسف عن تأخري عن الصلاة وعن حضور الجمعة ودعوة المسلمين . وقد كان
إسحاق بن إبراهيم وجه إلى أبي رحمه الله : " الزم بيتك ولا تخرج إلى جمعة ولا جماعة وإلا نزل بك ما نزل بك في أيام
أبي إسحاق " .
ثم قال
ابن الكلبي : قد أمرني أمير المؤمنين أن أحلفك ما عندك طلبته . فتحلف ؟ قال : إن استحلفتني حلفت ، فأحلفه بالله وبالطلاق ما عندك طلبة أمير المؤمنين وكأنهم أومأوا إلى أن عنده علويا ، ثم قال : أريد أن أفتش منزلك . قال
أبو الفضل : وكنت حاضرا فقال : ومنزل ابنك ، فقام
مظفر وابن الكلبي وامرأتان معهما فدخلا ففتشا البيت ثم فتشت الامرأتان النساء والصبيان .
قال
أبو الفضل : ثم دخلوا منزلي ففتشوه ، وأدلوا شمعة في البئر فنظروا ، ووجهوا نسوة ففتشوا الحريم وخرجوا ، ولما كان بعد يومين ورد كتاب
علي بن الجهم : إن أمير المؤمنين قد صح عنده براءتك مما قذفت به ، وقد كان أهل البدع قد مدوا أعناقهم ، فالحمد لله الذي لم يشمتهم بك ، وقد وجه إليك أمير المؤمنين
يعقوب المعروف بقوصرة ومعه جائزة ويأمرك بالخروج ، فالله الله أن تستعقبني وترد الجائزة ، قال
أبو الفضل : ثم ورد من الغد يعقوب فدخل إلى أبي فقال له : يا
أبا عبد الله ، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول : " قد صح نقاء ساحتك وقد أحببت أن آنس بقربك وأتبرك بدعائك ، وقد وجهت إليك عشرة آلاف درهم معونة على سفرك " ، وأخرج بدرة فيها صرة نحو مما ذكر مائتي دينار والباقي دراهم صحاح ينظر إليها ، ثم شدها يعقوب ، وقال : أعود غدا حتى أنظر علام تعزم عليه ؟ وقال له : يا
أبا عبد الله ، الحمد لله الذي لم يشمت بك أهل البدع ، وانصرف . فجئت بإجانة خضراء كفأتها على البدرة ، فلما كان عند المغرب قال : يا
صالح ، خذ هذه فصيرها عندك فصيرتها عند رأسي فوق البيت ، فلما كان السحر إذا هو ينادي : يا صالح ، فقمت إليه فقال : يا
صالح ، ما نمت ليلتي هذه ، فقلت : لم ؟ فجعل يبكي ، وقال : سلمت من هؤلاء حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم ، قد عرضت علي أن أفرق هذا الشيء إذا أصبحت ، قلت : ذاك إليك ، فلما أصبح جاءه
الحسين بن البزار [ ص: 208 ] والمشايخ ، فقال : جئني يا
صالح بالميزان ، فقال : وجهوا إلى أبناء
المهاجرين والأنصار ، ثم قال : وجه إلى فلان حتى يفرق في ناحيته وإلى فلان ، فلم يزل حتى فرقها كلها ونفض الكيس ونحن في حالة الله بها عليم ، فجاء بني له فقال : يا أبت أعطني درهما ، فنظر إلي فأخرجت قطعة أعطيته وكتب صاحب البريد أنه تصدق بالدراهم من يومه حتى تصدق بالكيس ، قال
علي بن الجهم : فقلت له : يا أمير المؤمنين قد تصدق بها ، وقد علم الناس أنه قد قبل منك ، ما يصنع
أحمد بالمال ، وإنما قوته رغيف ؟ قال : فقال لي : صدقت يا
علي ، قال
أبو الفضل : ثم خرج أبي رحمه الله ليلا ومعنا حراس معهم النفاطات ، فلما أضاء الفجر قال لي : يا
صالح ، أمعك دراهم ؟ قلت : نعم ، قال : أعطهم فأعطيتهم درهما ، فلما أصبحنا جعل
يعقوب يسير معه فقال له : يا
أبا عبد الله ، أريد أن أؤدي عنك رسالة إلى أمير المؤمنين فسكت ، فقال : إن
عبد الله بن إسحاق أخبرني أن
الفرايضي قال له : إني أشهد عليه أنه قال : إن
أحمد يعيد مالي ، فقال : يا
أبا يوسف يكفي الله ، فغضب
يعقوب ، فالتفت إلي فقال : ما رأيت أعجب مما نحن فيه ، أسأله أن يطلق لي كلمة أخبر بها أمير المؤمنين فلا يفعل ، قال
أبو الفضل : وقصر أبي في خروجه إلى العسكر ، وقال :
nindex.php?page=treesubj&link=1787_32795_1779تقصر الصلاة في أربعة برد وهي ستة عشر فرسخا ، وصليت به يوما العصر فقال لي : طويت بنا العصر ، فقرأ في الركعة مقدار خمس عشرة آية ، وكنت أصلي به في العسكر ، فلما صرنا بين الحائطين ، قال لنا
يعقوب : أقيموا ، ثم وجه إلى
المتوكل بما عمل ، فدخلنا العسكر وأبي منكس الرأس ، ورأسه مغطى ، فقال له
يعقوب : اكشف عن رأسك يا
أبا عبد الله ، فكشف ، ثم جاء وصيف يريد الدار فلما نظر إلى الناس وجمعهم ، قال : ما هؤلاء ؟ قالوا :
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، فوجه إليه بعد ما جاز ، فجاء
nindex.php?page=showalam&ids=15881ابن هرثمة فقال : الأمير يقرئك السلام ويقول : الحمد لله الذي لم يشمت بك الأعداء أهل البدع ، قد علمت ما كان حال
ابن أبي دؤاد فينبغي أن تتكلم ما يجب لله ، ومضى
يحيى .
قال
أبو الفضل : أنزل أبي
دار إيتاح فجاء
علي بن الجهم فقال : قد أمر لكم أمير المؤمنين بعشرة آلاف مكان التي فرقها ، وأمر أن لا يعلم بذلك فيغتم ، ثم جاءه
محمد بن معاوية ، فقال : إن أمير المؤمنين يكثر ذكرك ويقول : تقيم هاهنا تحدث ، فقال : أنا ضعيف ، ثم وضع
[ ص: 209 ] أصبعه على بعض أسنانه فقال : إن بعض أسناني تتحرك وما أخبرت بذلك ولدي ، ثم وجه إليه : ما تقول في بهيمتين انتطحتا فعقرت إحداهما الأخرى فسقطت فذبح ؟ فقال : إن كان أطرف بعينه ومصع بذنبه وسال دمه يؤكل ، قال
أبو الفضل : ثم صار إليه
يحيى بن خاقان فقال : يا
أبا عبد الله ، قد أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك لتركب إلى
أبي عبد الله ، ثم قال لي : قد أمرني أن أقطع له سوادا وطيلسانا وقلنسوة فأي قلنسوة يلبس ؟ فقلت له : ما رأيته لبس قلنسوة قط ، فقال له : إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أصير لك مرتبة في أعلى ، ويصير
أبو عبد الله في حجرك ، ثم قال لي : قد أمر أمير المؤمنين أن يجرى عليكم وعلى قراباتكم أربعة آلاف درهم ففرقها عليكم ، ثم عاد
يحيى من الغد وقال : يا
أبا عبد الله تركب ؟ فقال : ذاك إليكم ، فقالوا : استخر الله ، فلبس إزاره وخفيه ، وقد كان خفه قد أتي عليه ، له عنده نحو من خمس عشرة سنة مرقوعا برقاع عدة ، فأشار
يحيى إلي بلبس قلنسوة ، فقلت : ما له قلنسوة ، فقال : كيف يدخل عليه حاسرا
ويحيى قائم ، فطلبنا له دابة يركب عليها ، فقام
يحيى يصلي فجلس على التراب وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=55منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) ثم ركب بغل بعض التجار فمضينا معه حتى أدخل دار
المعتز فأجلس في بيت الدهليز ، ثم جاء
يحيى فأخذ بيده حتى أدخله ورفع الستر ، ونحن ننظر ، وكان
المعتز قاعدا على دكان في الدار ، وقد كان يحيى تقدم إليه ، فقال
يحيى : يا
أبا عبد الله إن أمير المؤمنين جاء بك ليسر بقربك ويصير
أبو عبد الله في حجرك .
فأخبرني بعض الخدم أن
المتوكل كان قاعدا وراء الستر ، فلما دخل الدار قال لأمه : يا أمه قد أنارت الدار ، ثم جاء خادم بمنديل فأخذ
يحيى المنديل فأخرج منه مبطنة فيها قميص فأدخل يده في جيب القميص والمبطنة في رأسه ثم أدخل يده فأخرج يده اليمنى وكذا اليسرى ، وهو لا يحرك يده ، ثم أخذ قلنسوة فوضعها على رأسه وألبسه طيلسانا ولحفه به ، ولم يجيئوا بخف فبقي الخف عليه ثم صرف . وقد كانوا تحدثوا أنه يخلع عليه سوادا فلما صاروا إلى الدار نزع الثياب عنه ثم جعل يبكي وقال : قد سلمت من هؤلاء منذ ستين سنة حتى إذا كان في آخر عمري بليت بهم ، ما أحسبني سلمت من دخولي على
[ ص: 210 ] هذا الغلام ، فكيف بمن يجب علي نصحه من وقت أن تقع عيني عليه إلى أن أخرج من عنده . ثم قال : يا
صالح ، وجه بهذه الثياب إلى
بغداد تباع ويتصدق بثمنها ، ولا يشتري أحد منكم شيئا منها ، فوجهت بها إلى
يعقوب بن التختكان فباعها وفرق ثمنها ، وبقيت عندي القلنسوة ، ثم أخبرناه أن الدار التي هو فيها كانت لأيتام ، فقال : اكتب رقعة إلى
محمد بن الجراح يستعفي لي من هذه الدار ، فكتبنا رقعة فأمر
المتوكل أن يعفى منها ، ووجه إلى قوم ليخرجوا عن منازلهم فسأل أن يعفى من ذلك ، فاكتريت له دارا بمائتي درهم فصار إليها ، وأجري لنا مائدة وبلح ، وضرب الخيش وفرش الطري ، فلما رأى الخيش والطري نحى نفسه عن ذلك الموضع ، وألقى نفسه على مضربة له .
واشتكت عينه ثم برئت ، فقال لي : ألا تعجب ! كانت عيني تشتكي فتمكث حينا حتى تبرأ ، ثم برأت في سرعة ، وجعل يواصل يفطر كل ثلاث على تمر وسويق ، فمكث خمس عشرة يفطر في كل ثلاث ، ثم جعل بعد ذلك يفطر ليلة وليلة ، لا يفطر إلا على رغيف ، فكان إذا جيء بالمائدة توضع في الدهليز لكيلا يراها فيأكل من حضر ، فكان إذا أجهده الحر تبل له خرقة فيضعها على صدره ، وفي كل يوم يوجه إليه
ابن ماسويه فينظر إليه ويقول : يا
أبا عبد الله ، أنا أميل إليك وإلى أصحابك وما بك علة إلا الضعف وقلة البر ، فقال له
ابن ماسويه : إنا ربما أمرنا عيالنا بأكل الدهن والخل فإنه يلين ، وجعل بالشيء ليشربه فيصبه ، وقطع له
يحيى دراعة وطيلسانا سوادا ، وجعل
يعقوب وعتاب يصيران إليه فيقولان له : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول في
ابن أبي دؤاد في ماله ؟ فلا يجيب في ذلك بشيء ، وجعل
يعقوب وعتاب يخبرانه بما يحدث في أمر
ابن أبي دؤاد في كل يوم ، ثم أحدر
ابن أبي دؤاد إلى
بغداد بعد ما أشهد عليه ببيع ضياعه ، وكان ربما صار إليه
يحيى وهو يصلي فيجلس في الدهليز حتى يفرغ -
ويحيى وعلي بن الجهم فينتزع سيفه وقلنسوته ويدخل عليه ، وأمر
المتوكل أن يشترى لنا دار ، فقال : يا
صالح ، قلت : لبيك ، قال : لئن أقررت لهم بشراء ذلك لتكونن القطيعة بيني وبينكم ، إنما تريدون أن تصيروا هذا البلد لي مأوى ومسكنا ، فلم يزل يدفع
[ ص: 211 ] شراء الدار حتى اندفع وصار إلى صاحب المنزل ، فقال : أعطيك كل شهر ثلاثة آلاف مكان المائدة ، فقلت : لا أفعل ، وجعلت رسل
المتوكل تأتيه يسألونه عن خبره ، فيصيرون إليه ويقولون له : يا
أبا عبد الله لا بد له من أن يراك ، فيسكت ، فإذا خرجوا قال : ألا تعجب من قوله : لا بد له من أن يراك ، وما عليهم من أن يراني ، وكان في هذه الدار حجرة صغيرة فيها بيتان ، فقال : أدخلوني تلك الحجرة ، ولا تسرجوا سراجا ، فأدخلناه إليها ، فجاءه يعقوب فقال : يا
أبا عبد الله ، أمير المؤمنين مشتاق إليك ، ويقول : انظر اليوم الذي تصير إلي فيه أي يوم هو حتى أعرفه ؟ فقال : ذاك إليكم ، فقال : يوم الأربعاء يوم خال ، وخرج
يعقوب ، فلما كان من الغد جاء فقال : البشرى يا
أبا عبد الله ، أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول : قد أعفيتك عن لبس السواد والركوب إلي وإلى ولاة العهود وإلى الدار ، فإن شئت فالبس القطن ، وإن شئت فالبس الصوف ، فجعل يحمد الله على ذلك ، وقال له
يعقوب : إن لي ابنا وأنا به معجب ، وله في قلبي موقع ، فأحب أن تحدثه بأحاديث ، فسكت ، فلما خرج قال : أتراه لا يرى ما أنا فيه ؟ وكان يختم من جمعة إلى جمعة ، فإذا ختم دعا فيدعو ونؤمن على دعائه ، فلما كان غداة الجمعة وجه إلي وإلى أخي عبد الله ، فلما أن ختم جعل يدعو ونؤمن على دعائه ، فلما فرغ جعل يقول : أستخير الله مرارا ، فجعلت أقول : ما تريد ؟ ثم قال : إني أعطي الله عهدا إن العهد كان مسئولا ، وقد قال الله عز وجل : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1ياأيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) إني لا أحدث حديثا تاما أبدا حتى ألقى الله ، ولا أستثني منكم أحدا ، فخرجنا وجاء
علي بن الجهم فقلنا له ، فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فأخبر
المتوكل بذلك ، وقال : إنما يريدون أن أحدث فيكون هذا البلد حبسي ، وإنما كان سبب الذين أقاموا بهذا البلد لما أعطوا وأمروا فحدثوا ، وكان يخبرونه فيتوجه لذلك وجعل يقول : والله لقد تمنيت الموت في الأمر الذي كان ، وإني لأتمنى الموت في هذا وذاك ، إن هذا فتنة الدنيا ، وكان ذاك فتنة الدين . ثم جعل يضم أصابع يده ويقول : لو كانت نفسي في يدي لأرسلتها ، ثم يفتح أصابعه ، وكان
المتوكل يوجه إليه في كل وقت يسأله عن حاله ، وكان في خلال ذلك يؤمر لنا بالمال ، فيقول : يوصل إليهم
[ ص: 212 ] ولا يعلم شيخهم فيغتم ، ما يريد منهم ؟ إن كان هؤلاء يريدون الدنيا فما يمنعهم ، وقالوا
للمتوكل : إنه كان لا يأكل من طعامك ، ولا يجلس على فرشك ، ويحرم الذي تشرب . فقال لهم : لو نشر لي
المعتصم لم أقبل منه . قال
أبو الفضل : ثم إني انحدرت إلى
بغداد وخلفت
عبد الله عنده ، فإذا
عبد الله قد قدم وجاء بثيابي التي كانت عنده ، فقلت : ما جاء بك ؟ قال : قال لي : انحدر وقل
لصالح : لا تخرج ، فأنتم كنتم آفتي ، والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أخرجت منكم واحدا معي لولا مكانكم ، لمن كان توضع هذه المائدة ؟ ولمن كان يفرش هذا الفرش ويجرى هذا الإجراء ؟ قال
أبو الفضل : فكتبت إليه أعلمه بما قال لي
عبد الله ، فكتب إلي بخطه : بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك ودفع عنك كل مكروه ومحذور ، الذي حملني على الكتاب إليك والذي قلت
لعبد الله : لا يأتيني منكم أحد ، ربما أن ينقطع ذكري ونحمل ، فإنكم إذا كنتم هاهنا فشا ذكري ، وكان يجتمع إليك قوم ينقلون أخبارنا ، ولم يكن إلا خيرا ، واعلم يا بني إن أقمت فلا تأت أنت ولا أخوك فهو رضائي ، فلا تجعل في نفسك إلا خيرا ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
قال
أبو الفضل : ثم ورد إلي كتاب آخر بخطه يذكر فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك ودفع عنك السوء برحمته ، كتابي إليك وأنا في نعمة من الله متظاهرة ، أسأله إتمامها والعون على أداء شكرها ، قد انفكت عنا عقدة ، إنما كان حبس من هاهنا لما أعطوا فقبلوا ، وأجري عليهم فصاروا في الحد الذي صاروا إليه ، وحدثوا ودخلوا عليهم ، فهذه كانت قيودهم ، فنسأل الله أن يعيذنا من شرهم ويخلصنا ، فقد كان ينبغي لكم لو قربتموني بأموالكم وأهاليكم فهان ذلك عليكم للذي أنا فيه فلا يكبر عليك ما أكتب به إليكم ، فالزموا بيوتكم ، فلعل الله تعالى أن يخلصني ، والسلام عليكم ورحمة الله . ثم ورد غير كتاب إلي بخطه بنحو من هذا ، فلما خرجنا من العسكر رفعت المائدة والفرش وكل ما أقيم لنا .
قال
أبو الفضل : وأوصى وصيته : بسم الله الرحمن الرحيم ،
nindex.php?page=treesubj&link=33599_25982_19638_19637هذا ما أوصى به nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن محمد بن حنبل ، ما أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن
[ ص: 213 ] محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين ويحمدوه في الحامدين ، وأن ينصحوا لجماعة المسلمين ، وأوصى : إني قد رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا
وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ، وأوصى أن
لعبد الله بن محمد المعروف ببوران علي نحو من خمسين دينارا وهو مصدق فيما قال ، فيقضى ما له علي من غلة الدار إن شاء الله ، فإذا استوفى أعطي ولدي
صالح وعبد الله ابنا
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن محمد بن حنبل كل ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء ما علي
لابن محمد . شهد
أبو يوسف وصالح وعبد الله ابنا
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن محمد بن حنبل .
قال
أبو الفضل : ثم سأل أبي أن يحول من الدار التي اكتريت له ، فاكترى هو دارا وتحول إليها ، فسأل
المتوكل عنه فقيل : إنه عليل ، فقال : قد كنت أحب أن يكون في قربي وقد أذنت له ، يا
عبيد الله ، احمل إليه ألف دينار ينفقها ، وقال
لسعيد : تهيئ له حراقة ينحدر فيها ، فجاءه
علي بن الجهم في جوف الليل فأخبره ، ثم جاء
عبيد الله ومعه ألف دينار فقال : إن أمير المؤمنين قد أذن لك وقد أمر لك بهذه الألف دينار ، فقال : قد أعفاني أمير المؤمنين مما أكره ، فردها وقال : أنا رفيق على البرد والطهر ، أرفق بي . فكتب إلى
محمد بن عبد الله في بره وتعاهده ، فقدم علينا فيما بين الظهر والعصر فلما انحدر إلى
بغداد ومكث قليلا قال لي : يا
صالح ، قلت : لبيك ، قال : أحب أن تدع هذا الرزق فلا تأخذه ولا توكل فيه أحدا فقد علمت أنكم إنما تأخذونه بسببي فسكت ، فقال : ما لك ؟ فقلت : أكره أن أعطيك شيئا بلساني وأخالف إلى غيره فأكون قد كذبتك ونافقتك وليس في القوم أكثر عيالا مني ولا أعذر ، وقد كنت أشكو إليك فتقول : أمرك منعقد بأمري ، ولعل الله أن يحل عني هذه العقدة . ثم قلت له : وقد كنت تدعو لي فأرجو أن يكون الله قد استجاب لك . قال : ولا تفعل ؟ قلت : لا ، قال : قم فعل الله بك وفعل ، فأمر بسد الباب بيني وبينه فتلقاني
عبد الله فسألني فأخبرته فقال : ما أقول ؟ قلت : ذاك إليك . فقال له مثل ما قال لي ، فقال : لا أفعل . فكان منه إليه نحو ما كان
[ ص: 214 ] منه إلي ، فلقينا عمه فقال : لو أردتم أن تقولوا له وما علمه إذا أخذتم شيئا ؟ فدخل عليه فقال : يا
أبا عبد الله لست آخذ شيئا من هذا . فقال : الحمد لله ، وهجرنا وسد الأبواب بيننا وبينه وتحامى منزلنا أن يدخل منه إلى منزله شيء ، وقد كان .
ذِكْرُ وُرُودِ كِتَابِ
المتوكل بِمِحْنَتِهِ أَوَّلًا ، ثُمَّ تَجَاوُزِهِ لَهُ وَإِعَادَتِهِ إِلَى الْعَسْكَرِ ثَانِيًا .
حَدَّثَنَا
محمد بن جعفر ،
والحسين بن محمد ،
وعلي بن أحمد ، قَالُوا : ثَنَا
محمد بن إسماعيل بن أحمد ، ثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=16207أَبُو الْفَضْلِ صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ
إسحاق بن إبراهيم ومحمد ابْنُهُ وَوَلِيَ
عبد الله بن إسحاق كَتَبَ
المتوكل إِلَيْهِ أَنْ وَجِّهْ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : إِنَّ عِنْدَكَ طَلِبَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَوَجَّهَ بِحَاجِبِهِ مُظَفَّرٍ وَحَضَرَ مَعَهُ صَاحِبُ الْبَرِيدِ ، وَكَانَ يُعْرَفُ
بابن الكلبي ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا فَقَالَ لَهُ
مظفر : يَقُولُ لَكَ الْأَمِيرُ قَدْ كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عِنْدَكَ طَلِبَتَهُ ، وَقَالَ لَهُ
ابن الكلبي مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ قَدْ نَامَ النَّاسُ فَدَفَعَ الْبَابَ - وَكَانَ عَلَى أَبِي إِزَارٌ - فَفَتَحَ لَهُمُ الْبَابَ وَقَعَدَ عَلَى بَابِهِ وَمَعَهُ النِّسَاءُ ، فَلَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ قَالَ لَهُمْ : إِنِّي مَا أَعْرِفُ
[ ص: 207 ] هَذَا ، وَإِنِّي لَأَرَى طَاعَتَهُ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَالْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ وَالْأَثَرَةِ ، وَإِنِّي
nindex.php?page=treesubj&link=19592_29471_27705_32024_32484أَسْتَأْسِفُ عَنْ تَأَخُّرِي عَنِ الصَّلَاةِ وَعَنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ . وَقَدْ كَانَ
إسحاق بن إبراهيم وَجَّهَ إِلَى أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ : " الْزَمْ بَيْتَكَ وَلَا تَخْرُجْ إِلَى جُمُعَةٍ وَلَا جَمَاعَةٍ وَإِلَّا نَزَلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِكَ فِي أَيَّامِ
أبي إسحاق " .
ثُمَّ قَالَ
ابن الكلبي : قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أُحَلِّفَكَ مَا عِنْدَكَ طَلِبَتُهُ . فَتَحْلِفُ ؟ قَالَ : إِنِ اسْتَحْلَفْتَنِي حَلَفْتُ ، فَأَحْلَفَهُ بِاللَّهِ وَبِالطَّلَاقِ مَا عِنْدَكَ طَلِبَةُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَأَنَّهُمْ أَوْمَأُوا إِلَى أَنَّ عِنْدَهُ عَلَوِيًّا ، ثُمَّ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ أُفَتِّشَ مَنْزِلَكَ . قَالَ
أبو الفضل : وَكُنْتُ حَاضِرًا فَقَالَ : وَمَنْزِلَ ابْنِكَ ، فَقَامَ
مظفر وابن الكلبي وَامْرَأَتَانِ مَعَهُمَا فَدَخَلَا فَفَتَّشَا الْبَيْتَ ثُمَّ فَتَّشَتِ الِامْرَأَتَانِ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ .
قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ دَخَلُوا مَنْزِلِي فَفَتَّشُوهُ ، وَأَدْلَوْا شَمْعَةً فِي الْبِئْرِ فَنَظَرُوا ، وَوَجَّهُوا نِسْوَةً فَفَتَّشُوا الْحَرِيمَ وَخَرَجُوا ، وَلَمَّا كَانَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ وَرَدَ كِتَابُ
علي بن الجهم : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ صَحَّ عِنْدَهُ بَرَاءَتُكَ مِمَّا قُذِفْتَ بِهِ ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْبِدَعِ قَدْ مَدُّوا أَعْنَاقَهُمْ ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْهُمْ بِكَ ، وَقَدْ وَجَّهَ إِلَيْكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ
يعقوب المعروف بِقَوْصَرَّةَ وَمَعَهُ جَائِزَةٌ وَيَأْمُرُكَ بِالْخُرُوجِ ، فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَسْتَعْقِبَنِي وَتَرُدَّ الْجَائِزَةَ ، قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ وَرَدَ مِنَ الْغَدِ يَعْقُوبُ فَدَخَلَ إِلَى أَبِي فَقَالَ لَهُ : يَا
أبا عبد الله ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : " قَدْ صَحَّ نَقَاءُ سَاحَتِكَ وَقَدْ أَحْبَبْتُ أَنْ آنَسَ بِقُرْبِكَ وَأَتَبَرَّكُ بِدُعَائِكَ ، وَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مَعُونَةً عَلَى سَفَرِكَ " ، وَأَخْرَجَ بَدْرَةً فِيهَا صُرَّةٌ نَحْوٌ مِمَّا ذَكَرَ مِائَتَيْ دِينَارٍ وَالْبَاقِي دَرَاهِمُ صِحَاحٌ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ، ثُمَّ شَدَّهَا يَعْقُوبُ ، وَقَالَ : أَعُودُ غَدًا حَتَّى أَنْظُرَ عَلَامَ تَعْزِمُ عَلَيْهِ ؟ وَقَالَ لَهُ : يَا
أبا عبد الله ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، وَانْصَرَفَ . فَجِئْتُ بِإِجَّانَةٍ خَضْرَاءَ كَفَأْتُهَا عَلَى الْبَدْرَةِ ، فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ قَالَ : يَا
صالح ، خُذْ هَذِهِ فَصَيِّرْهَا عِنْدَكَ فَصَيَّرْتُهَا عِنْدَ رَأْسِي فَوْقَ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ إِذَا هُوَ يُنَادِي : يَا صَالِحُ ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ : يَا
صالح ، مَا نِمْتُ لَيْلَتِي هَذِهِ ، فَقُلْتُ : لِمَ ؟ فَجَعَلَ يَبْكِي ، وَقَالَ : سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، قَدْ عَرَضْتَ عَلَيَّ أَنْ أُفَرِّقَ هَذَا الشَّيْءَ إِذَا أَصْبَحْتُ ، قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَهُ
الحسين بن البزار [ ص: 208 ] وَالْمَشَايِخُ ، فَقَالَ : جِئْنِي يَا
صالح بِالْمِيزَانِ ، فَقَالَ : وَجِّهُوا إِلَى أَبْنَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، ثُمَّ قَالَ : وَجِّهْ إِلَى فُلَانٍ حَتَّى يُفَرِّقَ فِي نَاحِيَتِهِ وَإِلَى فُلَانٍ ، فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى فَرَّقَهَا كُلَّهَا وَنَفَضَ الْكِيسَ وَنَحْنُ فِي حَالَةٍ اللَّهُ بِهَا عَلِيمٌ ، فَجَاءَ بُنَيٌّ لَهُ فَقَالَ : يَا أَبَتِ أَعْطِنِي دِرْهَمًا ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَأَخْرَجْتُ قِطْعَةً أَعْطَيْتُهُ وَكَتَبَ صَاحِبُ الْبَرِيدِ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِالدَّرَاهِمِ مِنْ يَوْمِهِ حَتَّى تَصَدَّقَ بِالْكِيسِ ، قَالَ
علي بن الجهم : فَقُلْتُ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ تَصَدَّقَ بِهَا ، وَقَدْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ قَدْ قَبِلَ مِنْكَ ، مَا يَصْنَعُ
أحمد بِالْمَالِ ، وَإِنَّمَا قُوتُهُ رَغِيفٌ ؟ قَالَ : فَقَالَ لِي : صَدَقْتَ يَا
علي ، قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ خَرَجَ أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْلًا وَمَعَنَا حُرَّاسٌ مَعَهُمُ النَّفَّاطَاتُ ، فَلَمَّا أَضَاءَ الْفَجْرُ قَالَ لِي : يَا
صالح ، أَمَعَكَ دَرَاهِمُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : أَعْطِهِمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ دِرْهَمًا ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا جَعَلَ
يعقوب يَسِيرُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ : يَا
أبا عبد الله ، أُرِيدُ أَنْ أُؤَدِّيَ عَنْكَ رِسَالَةً إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَكَتَ ، فَقَالَ : إِنَّ
عبد الله بن إسحاق أَخْبَرَنِي أَنَّ
الفرايضي قَالَ لَهُ : إِنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ
أحمد يُعِيدُ مَالِي ، فَقَالَ : يَا
أبا يوسف يَكْفِي اللَّهُ ، فَغَضِبَ
يعقوب ، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ : مَا رَأَيْتُ أَعْجَبَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ، أَسْأَلُهُ أَنْ يُطْلِقَ لِي كَلِمَةً أُخْبِرُ بِهَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَفْعَلُ ، قَالَ
أبو الفضل : وَقَصَرَ أَبِي فِي خُرُوجِهِ إِلَى الْعَسْكَرِ ، وَقَالَ :
nindex.php?page=treesubj&link=1787_32795_1779تُقْصَرُ الصَّلَاةُ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا ، وَصَلَّيْتُ بِهِ يَوْمًا الْعَصْرَ فَقَالَ لِي : طَوَيْتَ بِنَا الْعَصْرَ ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ مِقْدَارَ خَمْسَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِ فِي الْعَسْكَرِ ، فَلَمَّا صِرْنَا بَيْنَ الْحَائِطَيْنِ ، قَالَ لَنَا
يعقوب : أَقِيمُوا ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَى
المتوكل بِمَا عَمِلَ ، فَدَخَلْنَا الْعَسْكَرَ وَأَبِي مُنَكِّسُ الرَّأْسِ ، وَرَأْسُهُ مُغَطًّى ، فَقَالَ لَهُ
يعقوب : اكْشِفْ عَنْ رَأْسِكَ يَا
أبا عبد الله ، فَكَشَفَ ، ثُمَّ جَاءَ وَصِيفٌ يُرِيدُ الدَّارَ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّاسِ وَجَمْعِهِمْ ، قَالَ : مَا هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا :
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَا جَازَ ، فَجَاءَ
nindex.php?page=showalam&ids=15881ابْنُ هَرْثَمَةَ فَقَالَ : الْأَمِيرُ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُشْمِتْ بِكَ الْأَعْدَاءَ أَهْلَ الْبِدَعِ ، قَدْ عَلِمْتَ مَا كَانَ حَالُ
ابن أبي دؤاد فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَكَلَّمَ مَا يَجِبُ لِلَّهِ ، وَمَضَى
يحيى .
قَالَ
أبو الفضل : أُنْزِلَ أَبِي
دَارَ إِيتَاحٍ فَجَاءَ
علي بن الجهم فَقَالَ : قَدْ أَمَرَ لَكُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَشَرَةِ آلَافٍ مَكَانَ الَّتِي فَرَّقَهَا ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَعْلَمَ بِذَلِكَ فَيَغْتَمَّ ، ثُمَّ جَاءَهُ
محمد بن معاوية ، فَقَالَ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُكْثِرُ ذِكْرَكَ وَيَقُولُ : تُقِيمُ هَاهُنَا تُحَدِّثُ ، فَقَالَ : أَنَا ضَعِيفٌ ، ثُمَّ وَضَعَ
[ ص: 209 ] أُصْبُعَهُ عَلَى بَعْضِ أَسْنَانِهِ فَقَالَ : إِنَّ بَعْضَ أَسْنَانِي تَتَحَرَّكُ وَمَا أَخْبَرْتُ بِذَلِكَ وَلَدِي ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيْهِ : مَا تَقُولُ فِي بَهِيمَتَيْنِ انْتَطَحَتَا فَعَقَرَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَسَقَطَتْ فَذُبِحَ ؟ فَقَالَ : إِنْ كَانَ أَطْرَفَ بِعَيْنِهِ وَمَصَعَ بِذَنَبِهِ وَسَالَ دَمُهُ يُؤْكَلُ ، قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ صَارَ إِلَيْهِ
يحيى بن خاقان فَقَالَ : يَا
أبا عبد الله ، قَدْ أَمَرَنِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ أَصِيرَ إِلَيْكَ لِتَرْكَبَ إِلَى
أبي عبد الله ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَقْطَعَ لَهُ سَوَادًا وَطَيْلَسَانًا وَقَلَنْسُوَةً فَأَيَّ قَلَنْسُوَةٍ يَلْبَسُ ؟ فَقُلْتُ لَهُ : مَا رَأَيْتُهُ لَبِسَ قَلَنْسُوَةً قَطُّ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ أَصِيرَ لَكَ مَرْتَبَةً فِي أَعْلَى ، وَيَصِيرَ
أبو عبد الله فِي حِجْرِكَ ، ثُمَّ قَالَ لِي : قَدْ أَمَرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُجْرَى عَلَيْكُمْ وَعَلَى قَرَابَاتِكُمْ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفَرَّقَهَا عَلَيْكُمْ ، ثُمَّ عَادَ
يحيى مِنَ الْغَدِ وَقَالَ : يَا
أبا عبد الله تَرْكَبُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ ، فَقَالُوا : اسْتَخِرِ اللَّهَ ، فَلَبِسَ إِزَارَهُ وَخُفَّيْهِ ، وَقَدْ كَانَ خُفُّهُ قَدْ أُتِيَ عَلَيْهِ ، لَهُ عِنْدَهُ نَحْوٌ مِنْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مَرْقُوعًا بِرِقَاعٍ عِدَّةٍ ، فَأَشَارَ
يحيى إِلَيَّ بِلُبْسِ قَلَنْسُوَةٍ ، فَقُلْتُ : مَا لَهُ قَلَنْسُوَةٌ ، فَقَالَ : كَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَاسِرًا
ويحيى قَائِمٌ ، فَطَلَبْنَا لَهُ دَابَّةً يَرْكَبُ عَلَيْهَا ، فَقَامَ
يحيى يُصَلِّي فَجَلَسَ عَلَى التُّرَابِ وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=55مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ) ثُمَّ رَكِبَ بَغْلَ بَعْضِ التُّجَّارِ فَمَضَيْنَا مَعَهُ حَتَّى أُدْخِلَ دَارَ
المعتز فَأُجْلِسَ فِي بَيْتِ الدِّهْلِيزِ ، ثُمَّ جَاءَ
يحيى فَأَخَذَ بِيَدِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ وَرَفَعَ السِّتْرَ ، وَنَحْنُ نَنْظُرُ ، وَكَانَ
المعتز قَاعِدًا عَلَى دُكَّانٍ فِي الدَّارِ ، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى تَقَدَّمَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ
يحيى : يَا
أبا عبد الله إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَاءَ بِكَ لِيُسَرَّ بِقُرْبِكَ وَيَصِيرَ
أبو عبد الله فِي حِجْرِكَ .
فَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْخَدَمِ أَنَّ
المتوكل كَانَ قَاعِدًا وَرَاءَ السِّتْرِ ، فَلَمَّا دَخَلَ الدَّارَ قَالَ لِأُمِّهِ : يَا أُمَّهْ قَدْ أَنَارَتِ الدَّارُ ، ثُمَّ جَاءَ خَادِمٌ بِمِنْدِيلٍ فَأَخَذَ
يحيى الْمِنْدِيلَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مُبَطَّنَةً فِيهَا قَمِيصٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ الْقَمِيصِ وَالْمُبَطَّنَةُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَأَخْرَجَ يَدَهُ الْيُمْنَى وَكَذَا الْيُسْرَى ، وَهُوَ لَا يُحَرِّكُ يَدَهُ ، ثُمَّ أَخَذَ قَلَنْسُوَةً فَوَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ وَأَلْبَسَهُ طَيْلَسَانًا وَلَحَفَهُ بِهِ ، وَلَمْ يَجِيئُوا بِخُفٍّ فَبَقِيَ الْخُفُّ عَلَيْهِ ثُمَّ صُرِفَ . وَقَدْ كَانُوا تَحَدَّثُوا أَنَّهُ يَخْلَعُ عَلَيْهِ سَوَادًا فَلَمَّا صَارُوا إِلَى الدَّارِ نَزَعَ الثِّيَابَ عَنْهُ ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي وَقَالَ : قَدْ سَلِمْتُ مِنْ هَؤُلَاءِ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ عُمْرِي بُلِيتُ بِهِمْ ، مَا أَحْسَبُنِي سَلِمْتُ مِنْ دُخُولِي عَلَى
[ ص: 210 ] هَذَا الْغُلَامِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَجِبُ عَلَيَّ نُصْحُهُ مِنْ وَقْتِ أَنْ تَقَعَ عَيْنِي عَلَيْهِ إِلَى أَنْ أَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِ . ثُمَّ قَالَ : يَا
صالح ، وَجِّهْ بِهَذِهِ الثِّيَابِ إِلَى
بَغْدَادَ تُبَاعُ وَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا ، وَلَا يَشْتَرِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا مِنْهَا ، فَوَجَّهْتُ بِهَا إِلَى
يعقوب بن التختكان فَبَاعَهَا وَفَرَّقَ ثَمَنَهَا ، وَبَقِيَتْ عِنْدِي الْقَلَنْسُوَةُ ، ثُمَّ أَخْبَرْنَاهُ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي هُوَ فِيهَا كَانَتْ لِأَيْتَامٍ ، فَقَالَ : اكْتُبْ رُقْعَةً إِلَى
محمد بن الجراح يَسْتَعْفِي لِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، فَكَتَبْنَا رُقْعَةً فَأَمَرَ
المتوكل أَنْ يُعْفَى مِنْهَا ، وَوَجَّهَ إِلَى قَوْمٍ لِيَخْرُجُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَسَأَلَ أَنْ يُعْفَى مِنْ ذَلِكَ ، فَاكْتَرَيْتُ لَهُ دَارًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَارَ إِلَيْهَا ، وَأُجْرِيَ لَنَا مَائِدَةٌ وَبَلَحٌ ، وَضُرِبَ الْخَيْشُ وَفُرِشَ الطَّرِيُّ ، فَلَمَّا رَأَى الْخَيْشَ وَالطَّرِيَّ نَحَّى نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَى مُضَرَّبَةٍ لَهُ .
وَاشْتَكَتْ عَيْنُهُ ثُمَّ بَرِئَتْ ، فَقَالَ لِي : أَلَا تَعْجَبُ ! كَانَتْ عَيْنِي تَشْتَكِي فَتَمْكُثُ حِينًا حَتَّى تَبْرَأَ ، ثُمَّ بَرَأَتْ فِي سُرْعَةٍ ، وَجَعَلَ يُوَاصِلُ يُفْطِرُ كُلَّ ثَلَاثٍ عَلَى تَمْرٍ وَسَوِيقٍ ، فَمَكَثَ خَمْسَ عَشْرَةَ يُفْطِرُ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ ، ثُمَّ جَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُفْطِرُ لَيْلَةً وَلَيْلَةً ، لَا يُفْطِرُ إِلَّا عَلَى رَغِيفٍ ، فَكَانَ إِذَا جِيءَ بِالْمَائِدَةِ تُوضَعُ فِي الدِّهْلِيزِ لِكَيْلَا يَرَاهَا فَيَأْكُلُ مَنْ حَضَرَ ، فَكَانَ إِذَا أَجْهَدَهُ الْحَرُّ تُبَلُّ لَهُ خِرْقَةٌ فَيَضَعُهَا عَلَى صَدْرِهِ ، وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُوَجِّهُ إِلَيْهِ
ابن ماسويه فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ وَيَقُولُ : يَا
أبا عبد الله ، أَنَا أَمِيلُ إِلَيْكَ وَإِلَى أَصْحَابِكَ وَمَا بِكَ عِلَّةٌ إِلَّا الضَّعْفُ وَقِلَّةُ الْبِرِّ ، فَقَالَ لَهُ
ابن ماسويه : إِنَّا رُبَّمَا أَمَرْنَا عِيَالَنَا بِأَكْلِ الدُّهْنِ وَالْخَلِّ فَإِنَّهُ يَلِينُ ، وَجُعِلَ بِالشَّيْءِ لِيَشْرَبَهُ فَيَصُبَّهُ ، وَقَطَعَ لَهُ
يحيى دُرَّاعَةً وَطَيْلَسَانًا سَوَادًا ، وَجَعَلَ
يعقوب وعتاب يَصِيرَانِ إِلَيْهِ فَيَقُولَانِ لَهُ : يَقُولُ لَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ : مَا تَقُولُ فِي
ابن أبي دؤاد فِي مَالِهِ ؟ فَلَا يُجِيبُ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ ، وَجَعَلَ
يعقوب وعتاب يُخْبِرَانِهِ بِمَا يَحْدُثُ فِي أَمْرِ
ابن أبي دؤاد فِي كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ أُحْدِرَ
ابن أبي دؤاد إِلَى
بَغْدَادَ بَعْدَ مَا أُشْهِدَ عَلَيْهِ بِبَيْعِ ضِيَاعِهِ ، وَكَانَ رُبَّمَا صَارَ إِلَيْهِ
يحيى وَهُوَ يُصَلِّي فَيَجْلِسُ فِي الدِّهْلِيزِ حَتَّى يَفْرُغَ -
ويحيى وعلي بن الجهم فَيَنْتَزِعُ سَيْفَهُ وَقَلَنْسُوَتَهُ وَيَدْخُلُ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَ
المتوكل أَنْ يُشْتَرَى لَنَا دَارٌ ، فَقَالَ : يَا
صالح ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : لَئِنْ أَقْرَرْتَ لَهُمْ بِشِرَاءِ ذَلِكَ لَتَكُونَنَّ الْقَطِيعَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ، إِنَّمَا تُرِيدُونَ أَنْ تُصَيِّرُوا هَذَا الْبَلَدَ لِي مَأْوًى وَمَسْكَنًا ، فَلَمْ يَزَلْ يَدْفَعُ
[ ص: 211 ] شِرَاءَ الدَّارِ حَتَّى انْدَفَعَ وَصَارَ إِلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ ، فَقَالَ : أُعْطِيكَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ آلَافٍ مَكَانَ الْمَائِدَةِ ، فَقُلْتُ : لَا أَفْعَلُ ، وَجَعَلَتْ رُسُلُ
المتوكل تَأْتِيهِ يَسْأَلُونَهُ عَنْ خَبَرِهِ ، فَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ : يَا
أبا عبد الله لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ ، فَيَسْكُتُ ، فَإِذَا خَرَجُوا قَالَ : أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْلِهِ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَرَاكَ ، وَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَرَانِي ، وَكَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ حُجْرَةٌ صَغِيرَةٌ فِيهَا بَيْتَانِ ، فَقَالَ : أَدْخِلُونِي تِلْكَ الْحُجْرَةَ ، وَلَا تُسْرِجُوا سِرَاجًا ، فَأَدْخَلْنَاهُ إِلَيْهَا ، فَجَاءَهُ يَعْقُوبُ فَقَالَ : يَا
أبا عبد الله ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مُشْتَاقٌ إِلَيْكَ ، وَيَقُولُ : انْظُرِ الْيَوْمَ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيَّ فِيهِ أَيَّ يَوْمٍ هُوَ حَتَّى أَعْرِفَهُ ؟ فَقَالَ : ذَاكَ إِلَيْكُمْ ، فَقَالَ : يَوْمُ الْأَرْبِعَاءَ يَوْمٌ خَالٍ ، وَخَرَجَ
يعقوب ، فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جَاءَ فَقَالَ : الْبُشْرَى يَا
أبا عبد الله ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : قَدْ أَعْفَيْتُكَ عَنْ لُبْسِ السَّوَادِ وَالرُّكُوبِ إِلَيَّ وَإِلَى وُلَاةِ الْعُهُودِ وَإِلَى الدَّارِ ، فَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الْقُطْنَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَالْبَسِ الصُّوفَ ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ لَهُ
يعقوب : إِنَّ لِيَ ابْنًا وَأَنَا بِهِ مُعْجَبٌ ، وَلَهُ فِي قَلْبِي مَوْقِعٌ ، فَأُحِبُّ أَنْ تُحَدِّثَهُ بِأَحَادِيثَ ، فَسَكَتَ ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ : أَتُرَاهُ لَا يَرَى مَا أَنَا فِيهِ ؟ وَكَانَ يَخْتِمُ مِنْ جُمُعَةٍ إِلَى جُمُعَةٍ ، فَإِذَا خَتَمَ دَعَا فَيَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةُ الْجُمُعَةِ وَجَّهَ إِلَيَّ وَإِلَى أَخِي عَبْدِ اللَّهِ ، فَلَمَّا أَنْ خَتَمَ جَعَلَ يَدْعُو وَنُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ ، فَلَمَّا فَرَغَ جَعَلَ يَقُولُ : أَسْتَخِيرُ اللَّهَ مِرَارًا ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ : مَا تُرِيدُ ؟ ثُمَّ قَالَ : إِنِّي أُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=1يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) إِنِّي لَا أُحَدِّثُ حَدِيثًا تَامًّا أَبَدًا حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ ، وَلَا أَسْتَثْنِي مِنْكُمْ أَحَدًا ، فَخَرَجْنَا وَجَاءَ
علي بن الجهم فَقُلْنَا لَهُ ، فَقَالَ : إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فَأَخْبَرَ
المتوكل بِذَلِكَ ، وَقَالَ : إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ أُحَدِّثَ فَيَكُونَ هَذَا الْبَلَدُ حَبْسِي ، وَإِنَّمَا كَانَ سَبَبُ الَّذِينَ أَقَامُوا بِهَذَا الْبَلَدِ لَمَّا أُعْطُوا وَأُمِرُوا فَحَدَّثُوا ، وَكَانَ يُخْبِرُونَهُ فَيَتَوَجَّهُ لِذَلِكَ وَجَعَلَ يَقُولُ : وَاللَّهِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ الْمَوْتَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي كَانَ ، وَإِنِّي لَأَتَمَنَّى الْمَوْتَ فِي هَذَا وَذَاكَ ، إِنَّ هَذَا فِتْنَةُ الدُّنْيَا ، وَكَانَ ذَاكَ فِتْنَةَ الدِّينِ . ثُمَّ جَعَلَ يَضُمُّ أَصَابِعَ يَدِهِ وَيَقُولُ : لَوْ كَانَتْ نَفْسِي فِي يَدِي لَأَرْسَلْتُهَا ، ثُمَّ يَفْتَحُ أَصَابِعَهُ ، وَكَانَ
المتوكل يُوَجِّهُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يَسْأَلُهُ عَنْ حَالِهِ ، وَكَانَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ يُؤْمَرُ لَنَا بِالْمَالِ ، فَيَقُولُ : يُوصَلُ إِلَيْهِمْ
[ ص: 212 ] وَلَا يُعْلَمُ شَيْخُهُمْ فَيَغْتَمُّ ، مَا يُرِيدُ مِنْهُمْ ؟ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ يُرِيدُونَ الدُّنْيَا فَمَا يَمْنَعُهُمْ ، وَقَالُوا
للمتوكل : إِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِكَ ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى فَرْشِكَ ، وَيُحَرِّمُ الَّذِي تَشْرَبُ . فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ نَشَرَ لِيَ
المعتصم لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ . قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ إِنِّي انْحَدَرْتُ إِلَى
بَغْدَادَ وَخَلَّفْتُ
عبد الله عِنْدَهُ ، فَإِذَا
عبد الله قَدْ قَدِمَ وَجَاءَ بِثِيَابِي الَّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ ، فَقُلْتُ : مَا جَاءَ بِكَ ؟ قَالَ : قَالَ لِي : انْحَدِرْ وَقُلْ
لصالح : لَا تَخْرُجْ ، فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ آفَتِي ، وَاللَّهِ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَخْرَجْتُ مِنْكُمْ وَاحِدًا مَعِي لَوْلَا مَكَانُكُمْ ، لِمَنْ كَانَ تُوضَعُ هَذِهِ الْمَائِدَةُ ؟ وَلِمَنْ كَانَ يُفْرَشُ هَذَا الْفَرْشُ وَيُجْرَى هَذَا الْإِجْرَاءُ ؟ قَالَ
أبو الفضل : فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ أُعْلِمُهُ بِمَا قَالَ لِي
عبد الله ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ كُلَّ مَكْرُوهٍ وَمَحْذُورٍ ، الَّذِي حَمَلَنِي عَلَى الْكِتَابِ إِلَيْكَ وَالَّذِي قُلْتَ
لعبد الله : لَا يَأْتِينِي مِنْكُمْ أَحَدٌ ، رُبَّمَا أَنْ يَنْقَطِعَ ذِكْرِي وَنُحْمَلُ ، فَإِنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ هَاهُنَا فَشَا ذِكْرِي ، وَكَانَ يَجْتَمِعُ إِلَيْكَ قَوْمٌ يَنْقُلُونَ أَخْبَارَنَا ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا خَيْرًا ، وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ إِنْ أَقَمْتُ فَلَا تَأْتِ أَنْتَ وَلَا أَخُوكَ فَهُوَ رِضَائِي ، فَلَا تَجْعَلْ فِي نَفْسِكَ إِلَّا خَيْرًا ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ .
قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ وَرَدَ إِلَيَّ كِتَابٌ آخَرُ بِخَطِّهِ يَذْكُرُ فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحْسَنَ اللَّهُ عَاقِبَتَكَ وَدَفَعَ عَنْكَ السُّوءَ بِرَحْمَتِهِ ، كِتَابِي إِلَيْكَ وَأَنَا فِي نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٍ ، أَسْأَلُهُ إِتْمَامَهَا وَالْعَوْنَ عَلَى أَدَاءِ شُكْرِهَا ، قَدِ انْفَكَّتْ عَنَّا عُقْدَةٌ ، إِنَّمَا كَانَ حَبْسٌ مِنْ هَاهُنَا لَمَّا أُعْطُوا فَقَبِلُوا ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِمْ فَصَارُوا فِي الْحَدِّ الَّذِي صَارُوا إِلَيْهِ ، وَحَدَّثُوا وَدَخَلُوا عَلَيْهِمْ ، فَهَذِهِ كَانَتْ قُيُودَهُمْ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْ شَرِّهِمْ وَيُخَلِّصَنَا ، فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَكُمْ لَوْ قَرَّبْتُمُونِي بِأَمْوَالِكُمْ وَأَهَالِيكُمْ فَهَانَ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِلَّذِي أَنَا فِيهِ فَلَا يَكْبُرُ عَلَيْكَ مَا أَكْتُبُ بِهِ إِلَيْكُمْ ، فَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ ، فَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُخَلِّصَنِي ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ . ثُمَّ وَرَدَ غَيْرُ كِتَابٍ إِلَيَّ بِخَطِّهِ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَسْكَرِ رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ وَالْفَرْشُ وَكُلُّ مَا أُقِيمَ لَنَا .
قَالَ
أبو الفضل : وَأَوْصَى وَصِيَّتَهُ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=33599_25982_19638_19637هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ ، مَا أَوْصَى أَنَّهُ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ
[ ص: 213 ] مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . وَأَوْصَى مَنْ أَطَاعَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ فِي الْعَابِدِينَ وَيَحْمَدُوهُ فِي الْحَامِدِينَ ، وَأَنْ يَنْصَحُوا لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَوْصَى : إِنِّي قَدْ رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا
وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا ، وَأَوْصَى أَنَّ
لعبد الله بن محمد المعروف ببوران عَلَيَّ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِينَ دِينَارًا وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا قَالَ ، فَيُقْضَى مَا لَهُ عَلَيَّ مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى أُعْطِيَ وَلَدَيَّ
صالح وعبد الله ابْنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ كُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بَعْدَ وَفَاءِ مَا عَلَيَّ
لابن محمد . شَهِدَ
أبو يوسف وصالح وعبد الله ابْنَا
nindex.php?page=showalam&ids=12251أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ .
قَالَ
أبو الفضل : ثُمَّ سَأَلَ أَبِي أَنْ يُحَوَّلَ مِنَ الدَّارِ الَّتِي اكْتُرِيَتْ لَهُ ، فَاكْتَرَى هُوَ دَارًا وَتَحَوَّلَ إِلَيْهَا ، فَسَأَلَ
المتوكل عَنْهُ فَقِيلَ : إِنَّهُ عَلِيلٌ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي قُرْبِي وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ ، يَا
عبيد الله ، احْمِلْ إِلَيْهِ أَلْفَ دِينَارٍ يُنْفِقُهَا ، وَقَالَ
لسعيد : تُهَيِّئْ لَهُ حَرَّاقَةً يَنْحَدِرُ فِيهَا ، فَجَاءَهُ
علي بن الجهم فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَأَخْبَرَهُ ، ثُمَّ جَاءَ
عبيد الله وَمَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ فَقَالَ : إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَذِنَ لَكَ وَقَدْ أَمَرَ لَكَ بِهَذِهِ الْأَلْفِ دِينَارٍ ، فَقَالَ : قَدْ أَعْفَانِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِمَّا أَكْرَهُ ، فَرَدَّهَا وَقَالَ : أَنَا رَفِيقٌ عَلَى الْبَرْدِ وَالطُّهْرِ ، أَرْفِقْ بِي . فَكَتَبَ إِلَى
محمد بن عبد الله فِي بِرِّهِ وَتَعَاهُدِهِ ، فَقَدِمَ عَلَيْنَا فِيمَا بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَلَمَّا انْحَدَرَ إِلَى
بَغْدَادَ وَمَكَثَ قَلِيلًا قَالَ لِي : يَا
صالح ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ ، قَالَ : أُحِبُّ أَنْ تَدَعَ هَذَا الرِّزْقَ فَلَا تَأْخُذْهُ وَلَا تُوَكِّلْ فِيهِ أَحَدًا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ إِنَّمَا تَأْخُذُونَهُ بِسَبَبِي فَسَكَتُّ ، فَقَالَ : مَا لَكَ ؟ فَقُلْتُ : أَكْرَهُ أَنْ أُعْطِيَكَ شَيْئًا بِلِسَانِي وَأُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فَأَكُونَ قَدْ كَذَبْتُكَ وَنَافَقْتُكَ وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَكْثَرُ عِيَالًا مِنِّي وَلَا أَعْذَرُ ، وَقَدْ كُنْتُ أَشْكُو إِلَيْكَ فَتَقُولُ : أَمْرُكَ مُنْعَقِدٌ بِأَمْرِي ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَحُلَّ عَنِّي هَذِهِ الْعُقْدَةَ . ثُمَّ قُلْتُ لَهُ : وَقَدْ كُنْتَ تَدْعُو لِي فَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَكَ . قَالَ : وَلَا تَفْعَلُ ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : قُمْ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ وَفَعَلَ ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْبَابِ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَتَلَقَّانِي
عبد الله فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : مَا أَقُولُ ؟ قُلْتُ : ذَاكَ إِلَيْكَ . فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِي ، فَقَالَ : لَا أَفْعَلُ . فَكَانَ مِنْهُ إِلَيْهِ نَحْوُ مَا كَانَ
[ ص: 214 ] مِنْهُ إِلَيَّ ، فَلَقِيَنَا عَمُّهُ فَقَالَ : لَوْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقُولُوا لَهُ وَمَا عِلْمُهُ إِذَا أَخَذْتُمْ شَيْئًا ؟ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ : يَا
أبا عبد الله لَسْتُ آخُذُ شَيْئًا مِنْ هَذَا . فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ ، وَهَجَرَنَا وَسَدَّ الْأَبْوَابَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَتَحَامَى مَنْزِلَنَا أَنْ يَدْخُلَ مِنْهُ إِلَى مَنْزِلِهِ شَيْءٌ ، وَقَدْ كَانَ .