ذكر أبي عبد الله على إفريقية وهرب زيادة الله أميرها استيلاء
قد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدم ، ثم إن زيادة الله لما رأى استيلاء أبي عبد الله على البلاد ، وأنه قد فتح مدينة ميلة ومدينة سطيف ، وغيرهما ، أخذ في جمع [ ص: 591 ] العساكر ، وبذل الأموال فاجتمعت إليه عساكر عظيمة ، فقدم عليهم إبراهيم بن خنيش وهو من أقاربه ، وكان لا يعرف الحرب ، فبلغت عدة جيشه أربعين ألفا ، وسلم إليه الأموال والعدد ، ولم يترك بإفريقية شجاعا إلا أخرجه معه ، وسار إليه ، فانضاف إليه مثل جيشه ، فلما وصل قسطنطينية الهواء ، وهي مدينة قديمة حصينة ، نزل بها ، وأتاه كثير من كتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله ، فقتل في طريقه كثيرا من أصحاب أبي عبد الله ، وخاف أبو عبد الله منه ، وجميع كتامة ، وأقام بقسطنطينية ستة أشهر ، وأبو عبد الله متحصن في الجبل .
فلما رأى إبراهيم أن أبا عبد الله لا يتقدم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة ، فأخرج إليه أبو عبد الله خيلا اختارها ( ليختبر نزوله ) ، فوافاها بالموضع المذكور ، فلما رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه ، ولم يصحبه ( إليها ) أحد من جيشه ، وكانت أثقال العسكر على ظهور الدواب لم تحط ، ونشبت الحرب ، واقتتلوا قتالا شديدا .
واتصل الخبر بأبي عبد الله ، فزحف بالعساكر ، فوقعت الهزيمة على إبراهيم ومن معه ، فجرح وعقر فرسه وتمت الهزيمة على الجيش جميعه ، وأسلموا الأثقال بأسرها ، فغنمها أبو عبد الله وقتل منهم خلقا كثيرا ، وتم [ أمر ] إبراهيم إلى القيروان ، فشاشت بلاد إفريقية ، وعظم أمر أبي عبد الله ، واستقرت دولته ، وكتب أبو عبد الله كتابا إلى المهدي ، وهو في سجن سجلماسة يبشره ، وسير الكتاب مع بعض ثقاته ، فدخل السجن في زي قصاب يبيع اللحم ، فاجتمع به وعرفه ذلك .
وسار أبو عبد الله إلى مدينة طبنة فحصرها ، ونصب عليها الدبابات ، ونقب برجا وبدنة ، فسقط السور بعد قتال شديد ، وملك البلد ، فاحتمى المقدمون بحصن البلد ، فحصرهم ، فطلبوا الأمان ، فأمنهم ، وأمن أهل البلد ، وسار إلى مدينة بلزمة [ ص: 592 ] وكان قد حصرها مرارا كثيرة فلم يظفر بها فلما حصرها الآن ضيق عليها ، وجد في القتال ونصب عليها الدبابات ، ورماها بالنار ، فأحرقها ، وفتحها بالسيف وقتل الرجال ، وهدم الأسوار .
واتصلت الأخبار بزيادة الله ، فعظم عليه [ ذلك ] ، وأخذ في الجمع والحشد ، فجمع عسكرا عدتهم اثنا عشر ألفا ، وأمر عليهم هارون بن الطبني ، فسار ، واجتمع معه خلق كثير ، وقصد مدينة دار ملوك ، وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبد الله ، فقتل هارون أهلها ، وهدم الحصن ، ولقيه في طريقه خيل لأبي عبد الله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره ، فلما رآها العسكر اضطربوا وصاحوا صيحة عظيمة ، وهربوا من غير قتال ، فظن أصحاب أبي عبد الله أنها مكيدة ، فلما ظهر أنها هزيمة استدركوا الأمر ، ووضعوا السيف ، فما يحصى من قتلوا ، وقتل هارون أمير العسكر ، وفتح أبو عبد الله مدينة تيجس صلحا ، فاشتد الأمر حينئذ على زيادة الله ، وأخرج الأموال ، وجيش الجيوش وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبد الله ، فوصل إلى الأربس في سنة خمس وتسعين ومائتين ، فقال له وجوه دولته : إنك تغرر بنفسك ، فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ ، والرأي أن ترجع إلى مستقر ملكك ، وترسل الجيش مع من تثق به فإن كان
الفتح لنا فنصل إليك ، وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا .
ورجع ففعل ذلك ، وسير الجيش ، وقدم عليه رجلا من بني عمه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب ، وكان شجاعا ، وبلغ أبا عبد الله الخبر ، وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة ، فسار إليهم ، فلما قرب منها ، هرب عاملها إلى الأربس ، فدخلها أبو عبد الله ، وترك بها جندا ، وعاد إلى إنكجان ووصل الخبر إلى زيادة الله ، فزاده غما وحزنا ، فقال له إنسان كان يضحكه يا مولانا لقد عملت بيت شعر ، فعسى تجعل من [ ص: 593 ] يلحنه وتشرب عليه ، واترك هذا الحزن ، فقال : ما هو ؟ فقال المضحك ، ( للمغنين : غنوا شعرا كذا ) وقولوا بعد فراغ كل بيت :
اشرب واسقنا من القرن يكفينا
فلما غنوا طرب زيادة الله ( وشرب ) ، وانهمك في الأكل والشرب والشهوات ، فلما رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده .
ثم إن أبا عبد الله أخرج خيلا إلى مدينة مجانة فافتتحها عنوة ، وقتل عاملها ، وسير عسكرا آخر إلى مدينة تيفاش ، فملكها وأمن أهلها .
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبد الله يطلبون منه الأمان فأمنهم وسار بنفسه إلى مسكيانة ثم إلى تبسة ، ثم إلى مدبرة ، فوجد فيها أهل قصر الإفريقي ومدينة مرمجنة ، ومدينة مجانة وأخلاطا من الناس قد التجئوا إليها وتحصنوا فيها ، وهي حصينة ، فنزل عليها ، وقاتلها ، فأصابه علة الحصى ، وكانت تعتاده ، فشغل بنفسه ، وطلب أهلها الأمان فأمنهم بعض أهل العسكر ، ففتحوا الحصن ، فدخلها العسكر ، ووضعوا السيف ، وانتهبوا . وبلغ ذلك أبا عبد الله فعظم عليه ، ورحل ، فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمنهم ، وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب ، أمير الجيش الذي سيره زيادة الله ، أن أبا عبد الله يريد [ أن ] يقصد زيادة الله برقادة ، ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر ، فخرج من [ ص: 594 ] الأربس ونزل دردمين ، ( وسير أبو عبد الله سرية إلى دردمين ) ، فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال ، فقتل من أصحاب أبي عبد الله جماعة ، وانهزم الباقون .
واستبطأ أبو عبد الله خبرهم ، فسار في جميع عساكره ، فلقي أصحابه منهزمين ، فلما رأوه قويت قلوبهم ، ورجعوا ، وكروا على أصحاب إبراهيم ، وقتلوا منهم جماعة ، وحجز الليل بينهم .
ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة ، فحصرها ، فقاتله أهلها ، ثم طلبوا الأمان فأمنهم ( وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعدد ورحل إلى قفصة ، فطلب أهلها الأمان فأمنهم ) ورجع إلى باغاية ، فترك بها جيشا وعاد إلى جبل إنكجان .
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب ( في جيشه إلى باغاية ) وحصرها ، فبلغ الخبر أبا عبد الله ، فجمع عسكره وسار مجدا إليها ، ووجه اثني عشر ألف فارس ، وأمر مقدمهم أن يسير إلى باغاية ، فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فج العرعار ، فمضى الجيش وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالا شديدا ، فلما رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم ، فأرعب ذلك قلوبهم ، ثم بلغهم قرب العسكر منهم فعاد إبراهيم بعساكره ، فوصل عسكر أبي عبد الله فلم ير واحدا فنهبوا ما وجدوا وعادوا .
ورجع إبراهيم إلى الأربس . ولما دخل فصل الربيع ، وطاب الزمان ، جمع أبو عبد الله عساكره ، فبلغت مائتي ألف فارس وراجل ، واجتمع من عساكر زيادة الله بالأربس مع إبراهيم ما لا يحصى ، وسار أبو عبد الله أول جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائتين ، فالتقوا واقتتلوا أشد قتال وطال زمانه ، وظهر أصحاب زيادة الله فلما رأى ذلك أبو عبد الله [ ص: 595 ] اختار من أصحابه ستمائة راجل ، وأمرهم أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم ، فمضوا لما أمرهم في الطريق ( الذي أمرهم ) بسلوكه .
واتفق أن إبراهيم فعل مثل ذلك ، فالتقى الطائفتان ، فاقتتلوا في مضيق هناك ، ( فانهزم أصحاب إبراهيم ، ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبد الله ) ( وانهزموا ، وتفرقوا ) ، وهرب كل قوم إلى جهة بلادهم ، وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القيروان ، ( وتبعهم أصحاب أبي عبد الله ) يقتلون ويأسرون ، وغنموا الأموال والخيل والعدد ، ودخل أصحابه مدينة الأربس فقتلوا بها خلقا عظيما ، ودخل كثير من أهلها الجامع فقتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد ، وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة وانصرف أبو عبد الله إلى قمودة .
فلما وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب ( إلى الديار المصرية ، وكان من أمره ما تقدم ، ولما هرب زيادة الله هرب ) أهل مدينة رقادة على وجوههم ، في الليل ، إلى القصر القديم ، وإلى القيروان ، وسوسة ، ودخل أهل القيروان رقادة ونهبوا ما فيها ، وأخذ القوي الضعيف ، ونهبت قصور بني الأغلب ، وبقي النهب ستة أيام .
ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان ، فقصد قصر الإمارة ، واجتمع إليه أهل القيروان ، ونادى مناديه بالأمان ، وتسكين الناس ، وذكر لهم أحوال زيادة الله ، وما كان عليه ، حتى أفسد ملكه ، وصغر أمر أبي عبد الله الشيعي ، ووعدهم أن يقاتل عنهم ، ويحمي حريمهم وبلدهم ، وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال ، فقالوا : إنما نحن فقهاء ، وعامة ، وتجار ، وما في أموالنا ما يبلغ غرضك ، وليس لنا بالقتال طاقة ، فأمرهم بالانصراف ، فلما خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به : اخرج عنا ، فما لك عندنا سمع ولا طاعة ! وشتموه ، فخرج عنهم وهم يرجمونه .
ولما بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سبيبة ، ورحل فنزل بوادي [ ص: 596 ] النمل ، وقدم بين يديه عروبة بن يوسف ، وحسن بن أبي خنزير ، في ألف فارس إلى رقادة ، فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث ، فأمنوهم ولم يتعرضوا لأحد ، وتركوا لكل واحد ما حمله ، فأتى الناس إلى القيروان ، فأخبروه الخبر ، ففرح أهلها .
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبد الله ، فلقوه ، وسلموا عليه ، وهنئوه بالفتح ، فرد عليهم ردا حسنا ، وحدثهم ، وأعطاهم الأمان ، فأعجبهم ذلك وسرهم ، وذموا زيادة الله ، وذكروا مساوئه ، فقال لهم : ما كان ( إلا قويا ) ، وله منعة ، ودولة شامخة ، وما قصر في مدافعته ، ولكن أمر الله لا يعاند ولا يدافع ! فأمسكوا عن الكلام ، ورجعوا إلى القيروان .
ودخل رقادة يوم السبت ، مستهل رجب من سنة ست وتسعين ومائتين ، فنزل ببعض قصورها ، وفرق دورها على كتامة ، ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها ، وأمر فنودي بالأمان ، فرجع الناس إلى أوطانهم ، وأخرج العمال إلى البلاد ، وطلب أهل الشر فقتلهم ، وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله من الأموال ، والسلاح ، وغير ذلك ، فاجتمع كثير منه ، وفيه كثير من الجواري لهن مقدار وحظ من الجمال ، فسأل عمن كان يكفلهن ، فذكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله ، فأحضرها ، وأحسن إليها ، وأمر بحفظهن ، وأمر لهن بما يصلحهن ولم ينظر إلى واحدة منهن .
ولما حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقيروان ورقادة ، فخطبوا ولم يذكروا أحدا ، وأمر بضرب السكة ، وأن لا ينقش عليها اسم ، ولكنه جعل مكان الاسم من وجه : بلغت حجة الله ، ومن الوجه الآخر : تفرق أعداء الله ، ونقش على السلاح : عدة في سبيل الله ، ووسم الخيل على أفخاذها : الملك لله ، وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن ، والقليل من الطعام الغليظ .