[ ص: 256 ] ذكر المعتز وموته خلع
وفيها ، في يوم الأربعاء ، لثلاث بقين من رجب ، خلع المعتز ، ولليلتين خلتا من شعبان ظهر موته .
وكان سبب خلعه أن الأتراك لما فعلوا بالكتاب ما ذكرناه ، ولم يحصل منهم مال ، ساروا إلى المعتز يطلبون أرزاقهم ، وقالوا : أعطنا أرزاقنا حتى نقتل صالح بن وصيف ، فلم يكن عنده ما يعطيهم ، فنزلوا معه إلى خمسين ألف دينار ، فأرسل المعتز إلى أمه يسألها أن تعطيه مالا ليعطيهم ، فأرسلت إليه : ما عندي شيء .
فلما رأى الأتراك أنهم لا يحصل لهم من المعتز شيء ، ولا من أمه ، وليس في بيت المال شيء ، اتفقت كلمتهم ، وكلمة المغاربة ، والفراغنة ، على خلع المعتز ، فساروا إليه وصاحوا ، فدخل إليه صالح ، ومحمد بن بغا المعروف بأبي نصر ، وبايكباك في السلاح ، فجلسوا على بابه ، وبعثوا إليه أن اخرج إلينا ، فقال : قد شربت أمس دواء ، وقد أفرط في العمل ، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل بعضكم ! وهو يظن أن أمره واقف على حاله ، فدخل إليه جماعة منهم ، فجروه برجله إلى باب الحجرة ، وضربوه بالدبابيس ، وخرقوا قميصه ، وأقاموه في الشمس في الدار ، فكان يرفع رجلا ويضع أخرى لشدة الحر ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ، وأدخلوه حجرة ، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه ، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان .
وكانت أمه قد اتخذت في دارها سربا ، فخرجت منه هي وأخت المعتز ، وكانوا أخذوا عليها الطريق ، ( ومنعوا أحدا يجوز إليها ) ، وسلموا المعتز إلى من يعذبه ، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيام ، فطلب حسوة من ماء البئر ، فمنعوه ، ثم أدخلوه سردابا ، وجصصوا عليه ، فمات ، فلما مات أشهدوا على موته بني هاشم والقواد ، وأنه لا أثر فيه ، ودفنوه مع المنتصر .
وكانت خلافته من لدن بويع إلى أن خلع أربع سنين وستة أشهر وثلاثة وعشرين يوما . [ ص: 257 ] يوما ، وكان عمره كله أربعا وعشرين سنة .
وكان أبيض ، أسود الشعر ، كثيفه ، حسن العينين والوجه ، أحمر الوجنتين ، حسن الجسم طويلا ; وكان مولدهبسر من رأى ، وكان فصيحا ، فمن كلامه لما سار المستعين إلى بغداذ ، وقد أحضر جماعة للرأي ، فقال لهم : أما تنظرون إلى هذه العصابة التي ذاع نفاقها ؟
الهمج ، العصاة ، الأوغاد الذين لا مسكة بهم ، ولا اختيار لهم ، ولا تمييز معهم ، قد زين لهم تقحم الخطأ سوء أعمالهم ، فهم الأقلون وإن كثروا ، والمذمون إذا ذكروا ، وقد علمت أنه لا يصلح لقواد الجيوش ، وسد الثغور ، وإبرام الأمور ، وتدبير الأقاليم إلا رجل قد تكاملت فيه خصال أربع : حزم يتقي به عند موارد الأمور حقائق مصادرها ، وعلم يحجزه عن التهور ، والتغرير في الأشياء إلا مع إمكان فرصتها ، وشجاعة لا تفضها الملمات مع تواتر حوائجها ، وجود يهون تبذير الأموال عند سؤالها ، وسرعة مكافأة الإحسان إلى صالح الأعوان ، وثقل الوطأة على أهل الزيغ والعدوان ، والاستعداد للحوادث إذ لا تؤمن حوادث الزمان .
وأما الاثنتان فإسقاط الحجاب عن الرعية ، والحكم بين القوي والضعيف بالسوية .
وأما الواحدة فالتيقظ للأمور ، وقد اخترت لهم رجلا من موالي أحدهم شديد الشكيمة ، ماضي العزيمة ، لا تبطره السراء ، ولا تدهشه الضراء ، ولا يهاب ما وراءه ، ولا يهوله ما يلقاه ، فهو كالحريش في أصل الإسلام إن حرك حمل ، وإن نهش قتل ، عدته عتيدة ، ونعمته شديدة ، يلقى الجيش في النفر القليل العديد ، بقلب أشد من الحديد ، طالب للثأر لا تفله العساكر ، باسل البأس ، ومقتضب الأنفاس ، لا يعوزه ما طلب ، ولا يفوته من هرب ، واري الزناد مضطلع العماد ، لا تشرهه الرغائب ، ولا تعجزه [ ص: 258 ] النوائب ، وإن ولي كفى ، وإن قال وفى ; وإن نازل فبطل ، وإن قال فعل ; ظله لوليه ظليل ، وبأسه في الهياج عليه دليل ، يفوق من ساماه ، ويعجزه من ناواه ، ويتعب من جاراه ، وينعش من والاه .