الفصل الثاني والعشرون : الزهد في الدنيا
وأما فقد تقدم من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي . وحسبك من تقلله منها ، وإعراضه عن زهرتها ، وقد سيقت إليه بحذافيرها ، وترادفت عليه فتوحها إلى أن زهده في الدنيا محمد قوتا . توفي - صلى الله عليه وسلم - ، ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله ، وهو يدعو ، ويقول : اللهم اجعل رزق آل
[ ص: 199 ] [ حدثنا سفيان بن العاصي ، والحسين بن محمد الحافظ ، والقاضي أبو عبد الله التيمي ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر ، قال : حدثنا أبو العباس الرازي ، قال : حدثنا ، حدثنا أبو أحمد الجلودي ابن سفيان حدثنا ، حدثنا أبو حسين مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة أبو معاوية عن ، عن الأعمش إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : حتى مضى لسبيله ما شبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام تباعا من خبز .
وفي رواية أخرى : من خبز شعير يومين متواليين ، ولو شاء الله لأعطاه ما لا يخطر ببال .
وفي رواية أخرى : ما شبع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خبز بر حتى لقي الله - عز وجل - .
وقالت عائشة رضي الله عنها : ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينارا ، ولا درهما ، ولا شاة ، ولا بعيرا .
وفي حديث : عمرو بن الحارث . قالت ما ترك إلا سلاحه ، وبغلته ، وأرضا جعلها صدقة عائشة رضي الله عنها : مكة ذهبا . فقلت : لا يا رب ، أجوع يوما ، وأشبع يوما ، فأما اليوم الذي أجوع فيه فأتضرع إليك ، وأدعوك ، وأما اليوم الذي أشبع فيه فأحمدك ، وأثني عليك . ولقد مات ، وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رق لي . وقال لي : إني عرض علي أن تجعل لي بطحاء
وفي حديث آخر أن جبريل نزل عليه ، فقال له : إن الله - تعالى - يقرئك السلام ، ويقول لك : أتحب أن أجعل هذه [ ص: 200 ] الجبال ذهبا ، وتكون معك حيثما كنت ، فأطرق ساعة ، ثم قال : يا جبريل ، إن الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، قد يجمعها من لا عقل له . فقال له جبريل : ثبتك الله يا محمد بالقول الثابت .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : محمد لنمكث شهرا ما نستوقد نارا ، إن هو إلا التمر ، والماء . إنا كنا آل
وعن : عبد الرحمن بن عوف . وعن هلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير عائشة ، وأبي أمامة ، نحوه . قال وابن عباس : ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاويا لا يجدون عشاء .
وعن أنس رضي الله عنه : . ما أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خوان ولا في سكرجة ، ولا خبز له مرقق ، ولا رأى شاة سميطا قط
وعن عائشة رضي الله عنها : . إنما كان فراشه - صلى الله عليه وسلم - الذي ينام عليه أدما حشوه ليف
وعن حفصة رضي الله عنها قالت : ، فينام عليه ، فثنيناه له ليلة بأربع ، فلما أصبح قال : ما فرشتموا لي الليلة ؟ فذكرنا ذلك له ، فقال : ردوه بحاله فإن وطأته منعتني الليلة صلاتي كان فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته مسحا [ ص: 201 ] نثنيه ثنيتين .
. وكان - صلى الله عليه وسلم - ينام أحيانا على سرير مزمول بشريط حتى يؤثر في جنبه
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : ، وكانت الفاقة أحب إليه من الغنى ، وإن كان ليظل جائعا يلتوي طول ليلته من الجوع فلا يمنعه صيام يومه ، ولو شاء سأل ربه جميع كنوز الأرض ، وثمارها ، ورغد عيشها ، ولقد كنت أبكي له رحمة مما أرى به ، وأمسح بيدي على بطنه مما به من الجوع ، وأقول : نفسي لك الفداء ، لو تبلغت من الدنيا بما يقوتك ! فيقول : يا لم يمتلئ جوف النبي - صلى الله عليه وسلم - شبعا قط ، ولم يبث شكوى إلى أحد عائشة ، ما لي ، وللدنيا ، إخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما هو أشد من هذا ، فمضوا على حالهم ، فقدموا على ربهم ، فأكرم مآبهم ، وأجزل ثوابهم ، فأجدني أستحيي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غدا دونهم ، وما من شيء هو أحب إلي من اللحوق بإخواني ، وأخلائي . قالت : فما أقام بعد إلا شهرا حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - .