[ ص: 119 ] [ ص: 120 ] الباب الأول :
في ثناء الله - تعالى - عليه وإظهاره عظيم قدره لديه
اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وعد محاسنه ، وتعظيم أمره ، وتنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، وبان فحواه ، وجمعنا ذلك في عشرة فصول :
الفصل الأول :
فيما جاء من ذلك مجيء المدح ، والثناء وتعداد المحاسن ، كقوله - تعالى - : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة : 128 ] الآية .
قال السمرقندي : وقرأ بعضهم : " من أنفسكم " [ التوبة : 128 ] بفتح الفاء . وقراءة الجمهور بالضم .
قال القاضي الإمام أبو الفضل وفقه الله تعالى - : أعلم الله - تعالى - المؤمنين ، أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب : أنه بعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفونه ، ويتحققون مكانه ويعلمون صدقه وأمانته ، فلا يتهمونه بالكذب وترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، وأنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولادة أو قرابة ، [ وهو عند وغيره معنى قوله - تعالى - : ابن عباس إلا المودة في القربى [ الشورى : 23 ] وكونه من أشرفهم ، وأرفعهم ، وأفضلهم ، على قراءة الفتح ، هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، وأثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم ورشدهم وإسلامهم ، وشدة ما يعنتهم ويضر بهم في دنياهم وأخراهم ، وعزته عليه ورأفته ورحمته بمؤمنهم . قال بعضهم : . ومثله في الآية الأخرى قوله - تعالى - : أعطاه اسمين من أسمائه : رءوف ، رحيم لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [ آل عمران : 164 ] [ ص: 121 ] الآية
وفي الآية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] الآية . وقوله - تعالى - : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم [ البقرة : 151 ] الآية .
وروي عن - رضي الله عنه - ، علي بن أبي طالب عنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى - : من أنفسكم [ التوبة : 129 ] قال : نسبا وصهرا وحسبا ، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح ، كلها نكاح . قال : كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان عليه الجاهلية . وعن ابن الكلبي - رضي الله عنه - في ابن عباس وتقلبك في الساجدين قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبيا . وقال قوله - تعالى - : : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم وبينه مخلوقا من جنسهم في الصورة ، ألبسه من نعته الرأفة ، والرحمة ، وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا ، وجعل طاعته طاعته ، وموافقته موافقته ، فقال - تعالى - : جعفر بن محمد من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] . وقال - تعالى - : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] الآية .
قال أبو بكر بن طاهر : ، فكان كونه رحمة ، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، والواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله تعالى يقول : زين الله - تعالى - محمدا - صلى الله عليه وسلم - بزينة الرحمة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] ، فكانت حياته رحمة ، ومماته رحمة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : حياتي خير لكم وموتي خير لكم وكما قال - عليه الصلاة والسلام - : . إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطا وسلفا
[ ص: 122 ] وقال السمرقندي : رحمة للعالمين : يعني للجن ، والإنس . قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل ، ورحمة للكافر بتأخير العذاب . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هو رحمة للمؤمنين والكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .
وحكي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - عليه السلام - : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله - عز وجل - علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [ التكوير : 20 - 21 ] الآية .
وروي عن في قوله - تعالى - : جعفر بن محمد الصادق فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال الله - تعالى - : الله نور السماوات والأرض [ النور : 35 ] الآية .
قال ، كعب الأحبار : المراد بالنور الثاني هنا وابن جبير محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقوله - تعالى - مثل نوره [ النور : 35 ] أي نور محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقال : المعنى : الله هادي أهل السماوات ، والأرض ، ثم قال : مثل نور سهل بن عبد الله محمد إذ كان مستودعا في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، وأراد بالمصباح قلبه ، والزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان والحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وضرب المثل بالشجرة المباركة . وقوله : يكاد زيتها يضيء [ النور : 35 ] أي تكاد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت . وقيل في هذه الآية غير هذا ، والله أعلم .
وقد سماه الله - تعالى - في القرآن في غير هذا الموضع نورا وسراجا منيرا ، فقال - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ المائدة : 15 ] الآية . وقال - تعالى - : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ الأحزاب : 45 46 ] الآية . ومن هذا قوله - تعالى - : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] . شرح : وسع . والمراد بالصدر هنا : القلب .
[ ص: 123 ] قال - رضي الله عنهما - : شرحه بنور الإسلام . وقال ابن عباس سهل : بنور الرسالة . وقال الحسن : ملأه حكما وعلما . وقيل : معناه ألم يطهر قلبك حتى لا يقبل الوسواس . ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك [ الشرح : 8 - 9 ] قيل : ما سلف من ذنبك يعني قبل النبوة . وقيل : أراد ثقل أيام الجاهلية . وقيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي ، والسلمي . وقيل : عصمناك ، ولولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي . ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .
قال : بالنبوة . وقيل : إذا ذكرت ذكرت معي في قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وقيل : في الآذان والإقامة . يحيى بن آدم
قال الفقيه القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على عظيم نعمه لديه ، وشريف منزلته عنده ، وكرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ، ووسعه لوعي العلم ، وحمل الحكمة ، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، وبغضه لسيرها ، وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة ، والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، وتنويهه بعظيم مكانه وجليل رتبته ، ورفعة ذكره ، وقرانه مع اسمه اسمه .
قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا ، والآخرة فليس خطيب ، ولا متشهد ، ولا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
[ ص: 124 ] وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني أبو سعيد الخدري جبريل - عليه السلام - ، فقال : إن ربي وربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .
قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكرك معي . وقال أيضا : جعلتك ذكرا من ذكري ، فمن ذكرك ذكرني .
وقال : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية . وأشار بعضهم في ذلك إلى جعفر بن محمد الصادق . ومن ذكره معه - تعالى - أن قرن طاعته بطاعته ، واسمه باسمه ، فقال - تعالى - : مقام الشفاعة أطيعوا الله والرسول [ آل عمران : 132 ] . و آمنوا بالله ورسوله [ الحديد : 7 ] ، فجمع بينهما بواو العطف المشركة . ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه - صلى الله عليه وسلم - . قال : [ حدثنا الشيخ الحافظ فيما أجازنيه ، وقرأته على الثقة عنه ] . أبو علي الحسين بن محمد الجياني
قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن : حدثنا أبو بكر بن داسة أبو داود السجزي ، حدثنا ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة - رضي الله عنه - ، لا يقولن أحدكم ما شاء [ ص: 125 ] الله وشاء فلان ولكن ما شاء الله ثم شاء فلان . عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال :
قال الخطابي : أرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدب في تقديم مشيئة الله - تعالى - على مشيئة من سواه ، واختارها بثم التي هي للنسق ، والتراخي ، بخلاف الواو التي هي للاشتراك . ومثله الحديث الآخر :
فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب . قال أن خطيبا خطب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما . أبو سليمان : كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية . وذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على " يعصهما " . وقول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : ومن يعصهما فقد غوى ، ولم يذكر الوقوف على يعصهما . وقد اختلف المفسرون وأصحاب المعاني في إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] ، هل [ يصلون ] راجعة على الله - تعالى - ، والملائكة أم لا ؟ فأجازه بعضهم ، ومنعه آخرون ، لعلة التشريك ، وخصوا الضمير بالملائكة ، وقدروا الآية : إن الله يصلي ، وملائكته يصلون . قوله - تعالى - :
وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته ، فقال - تعالى - : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] . وقد قال - تعالى - : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] الآية .
[ ص: 126 ] وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمدا يريد أن نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله - تعالى - : قل أطيعوا الله والرسول [ آل عمران : 32 ] فقرن طاعته بطاعته رغما لهم . وقد اختلف المفسرون في اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ الفاتحة : 6 - 7 ] ، فقال معنى قوله - تعالى - في أم الكتاب : أبو العالية ، : الصراط المستقيم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيار أهل بيته وأصحابه ، حكاه عنهما والحسن البصري ، وحكى أبو الحسن الماوردي عنهما نحوه ، وقال : هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه : مكي أبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - . وحكى مثله عن أبو الليث السمرقندي أبي العالية ، في قوله - تعالى - : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ الفاتحة : 7 ] قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق والله ونصح .
وحكى الماوردي ذلك في تفسير : اهدنا الصراط المستقيم [ الفاتحة : 6 ] .
عن عبد الرحمن بن زيد ، وحكى ، عن بعضهم ، في تفسير أبو عبد الرحمن السلمي فقد استمسك بالعروة الوثقى [ لقمان : 22 ] إنه قوله - تعالى - : محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : الإسلام . وقيل : شهادة التوحيد .
[ ص: 127 ] وقال سهل في قوله - تعالى - : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 34 ] قال : نعمته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ الزمر : 33 ] الآية . وقال - تعالى - :
أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال بعضهم : وهو الذي صدق به . وقرئ : صدق بالتخفيف . وقال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون . وقيل : أبو بكر . وقيل : علي . وقيل : غير هذا من الأقوال .
وعن مجاهد في قوله - تعالى - : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] قال : بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .