هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو
nindex.php?page=treesubj&link=20357الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت ، أو الأخذ فيها بالنظر الأول ، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم .
[ ص: 691 ] ألا ترى إلى أن
الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفهم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005540بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم لأن الفهم راجع إلى القلب ، فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال ، وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف المسموعة فقط ، وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم ، وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005541إن الله لا يقبض العلم انتزاعا إلى آخره .
وقد وقع
nindex.php?page=showalam&ids=11لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه ، فخرج
أبو عبيد في فضائل القرآن ، و
nindex.php?page=showalam&ids=16000سعيد بن منصور في تفسيره عن
إبراهيم التميمي قال : خلا
عمر ـ رضي الله عنه ـ ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد
سعيد وكتابها واحد ـ قال ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما أنزل ، وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيما نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإن كان لهم فيه رأي اختلفوا ، وقال
سعيد : فيكون لكل قوم فيه رأي ، فإذا كان كذلك اختلفوا ، وقال
سعيد فيكون لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا . قال : فزجره
عمر وانتهره
علي فانصرف
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، ونظر
عمر فيما قال فعرفه ، فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته . فأعاد عليه ، فعرف
عمر قوله وأعجبه .
[ ص: 692 ] وما قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحق ، فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها ، فلم يتعد ذلك فيها ، وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها . فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر ، وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب ، أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات ، فلم يكن بد من الأخذ ببادي الرأي ، أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا ، إذ لا دليل عليه من الشريعة ، فضلوا وأضلوا .
ومما يوضح ذلك ما خرجه
ابن وهب عن
بكير أنه سأل
نافعا : كيف رأي
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر في
الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين . فسر
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير من ذلك ، فقال : مما يتبع
الحرورية من المتشابه قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ويقرنون معها :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ، ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ، فهذه الأمة مشركون فيخرجون فيقتلون ما رأيت ، لأنهم يتأولون هذه الآية . فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل القرآن فيه .
وقال
نافع : إن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر كان إذا سئل عن
nindex.php?page=treesubj&link=20467الحرورية ؟ قال : يكفرون
[ ص: 693 ] المسلمين ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، وينكحون النساء في عددهن ، وتأتيهم المرأة فينكحها الرجل منهم ولها زوج ، فلا أعلم أحدا أحق بالقتال منهم . فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم فيه في واسطة بين طرفين . فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما . فلم تفعل . بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال . ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير ، وهو الاختلاف في الفروع .
فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا . أما الجهة الأخرى ، فإن عدم ذكرهم في هذه الأمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول ، وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة . ولا أخبر الشارع به . ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها . كذلك لا نقول : اختلفت الأمة أو افترقت الأمة بعد اتفاقها . أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام . وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة . إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة . ولذلك
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005542قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم قال :
وتتمارى في الفوق وفي رواية :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005544فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم [ ص: 694 ] شيء والتماري في الفوق فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة ؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا .
وقد
nindex.php?page=treesubj&link=20445اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى . ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم . والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ، ألا ترى إلى صنع
علي ـ رضي الله عنه ـ في
الخوارج ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ، فإنه لما اجتمعت
الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم
علي ولا قاتلهم ، ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم ، لقوله عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005545من بدل دينه فاقتلوه ، ولأن
أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم ، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين .
وأيضا ، فحين ظهر
nindex.php?page=showalam&ids=17115معبد الجهني وغيره من
أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين .
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه
الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على حد ما أمر به
علي ـ رضي الله عنه ـ ، ولم يعاملهم
[ ص: 695 ] معاملة المرتدين .
ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون للهوى ، ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ، ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا ، إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا ، وهو كفر . وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها ، وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه متبع للدليل بمثله ، لا يقال : أنه صاحب هوى بإطلاق . بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة .
وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة من مطلب واحد ، وهو الانتساب إلى الشريعة . ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة . وإنما وقع اختلافهم في الطريق ، وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟
وأيضا ، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده ، كما رجع من
الحرورية الخارجين على
علي ـ رضي الله عنه ـ ألفان ، وإن كان الغالب عدم الرجوع ، كما تقدم في أن المبتدع
[ ص: 696 ] [ ص: 698 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=1005546قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان nindex.php?page=showalam&ids=3795وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ، ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك . قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك ، يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان nindex.php?page=showalam&ids=3795وسهيل بن عمرو قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون .
هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ : وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=20357الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ ، أَوِ الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ .
[ ص: 691 ] أَلَّا تَرَى إِلَى أَنَّ
الْخَوَارِجَ كَيْفَ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ ؟ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005540بِأَنَّهُمْ يَقْرَؤُنَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ، يَعْنِي ـ وَاللَّهُ أَعْلَمُ ـ أَنَّهُمْ لَا يَتَفَقَّهُونَ بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْفَهْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ فَهْمٌ عَلَى حَالٍ ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ فَقَطْ ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ ، وَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005541إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعَلَمَ انْتِزَاعًا إِلَى آخِرِهِ .
وَقَدْ وَقَعَ
nindex.php?page=showalam&ids=11لِابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَخَرَّجَ
أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ ، وَ
nindex.php?page=showalam&ids=16000سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ
إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ : خَلَا
عُمَرُ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ذَاتَ يَوْمٍ ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ : كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ ؟ فَأَرْسَلَ إِلَى
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ فَقَالَ : كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ ـ زَادَ
سَعِيدٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ ـ قَالَ ، فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ : إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ ، وَعَلِمْنَا فِيمَا أُنْزِلَ ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَدْرُونَ فِيمَا نَزَلَ ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا ، وَقَالَ
سَعِيدٌ : فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا ، وَقَالَ
سَعِيدٌ فَيَكُونُ لَكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا . قَالَ : فَزَجَرَهُ
عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ
عَلِيٌّ فَانْصَرَفَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَنَظَرَ
عُمَرُ فِيمَا قَالَ فَعَرَفَهُ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ : أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ . فَأَعَادَ عَلَيْهِ ، فَعَرَفَ
عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ .
[ ص: 692 ] وَمَا قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ هُوَ الْحَقُّ ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلَ فِيمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَوِ السُّورَةُ عَرَفَ مَخْرَجَهَا وَتَأْوِيلَهَا وَمَا قُصِدَ بِهَا ، فَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ فِيهَا ، وَإِذَا جَهِلَ فِيمَا أُنْزِلَتِ احْتَمَلَ النَّظَرُ فِيهَا أَوْجُهًا . فَذَهَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَذْهَبًا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآخَرُ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصَّوَابِ ، أَوْ يَقِفُ بِهِمْ دُونَ اقْتِحَامِ حِمَى الْمُشْكِلَاتِ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِبَادِيِ الرَّأْيِ ، أَوِ التَّأْوِيلِ بِالتَّخَرُّصِ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ
نَافِعًا : كَيْفَ رَأْيُ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ فِي
الْحَرُورِيَّةِ ؟ قَالَ : يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فَسَّرَ
nindex.php?page=showalam&ids=15992سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : مِمَّا يَتَّبِعُ
الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=44وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=1ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالُوا : قَدْ كَفَرَ ، وَمِنْ كَفَرَ عَدَلَ بِرَبِّهِ وَمِنْ عَدَلَ بِرَبِّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ فَيَقْتُلُونَ مَا رَأَيْتُ ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ . فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ .
وَقَالَ
نَافِعٌ : إِنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ
nindex.php?page=treesubj&link=20467الْحَرُورِيَّةِ ؟ قَالَ : يُكَفِّرُونَ
[ ص: 693 ] الْمُسْلِمِينَ ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ، وَيَنْكِحُونَ النِّسَاءَ فِي عِدَدِهِنَّ ، وَتَأْتِيهِمُ الْمَرْأَةُ فَيَنْكِحُهَا الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَهَا زَوْجٌ ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْهُمْ . فَإِنْ قِيلَ : فَرَضْتُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ فِي وَاسِطَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ . فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُرَدِّدَ النَّظَرَ فِيهِ عَلَيْهِمَا . فَلَمْ تَفْعَلْ . بَلْ رَدَدْتُهُ إِلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي الذَّمِّ وَالضَّلَالِ . وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ بِجَانِبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُضِيرُ ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ .
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ : أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَاسِطَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا . أَمَّا الْجِهَةُ الْأُخْرَى ، فَإِنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَوْضَحَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُلْحِقًا لَهُمْ بِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْأُمَّةِ اخْتِلَافٌ وَلَا فُرْقَةَ . وَلَا أَخْبَرَ الشَّارِعَ بِهِ . وَلَا نَبَّهَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْخَلْقِ عَلَى الْمِلَّةِ بَعْدَ [ مَا ] كَانُوا مُفَارِقِينَ لَهَا لَمْ نَقُلْ : اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اخْتِلَافِهَا . كَذَلِكَ لَا نَقُولُ : اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ أَوِ افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اتِّفَاقِهَا . أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكَفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ . وَإِنَّمَا يُقَالُ : افْتَرَقَتْ وَتَفْتَرِقُ الْأُمَّةُ . إِذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ وَاقِعًا فِيهَا مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْأُمَّةِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ . وَلِذَلِكَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005542قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ : يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ قَالَ :
وَتَتَمَارَى فِي الْفُوَقِ وَفِي رِوَايَةٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005544فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ : هَلْ عَلِقَ بِهَا مَنِ الدَّمِ [ ص: 694 ] شَيْءٌ وَالتَّمَارِي فِي الْفُوَقِ فِيهِ هَلْ فِيهِ فَرْثٌ وَدَمٌ أَمْ لَا ؟ شَكٌّ بِحَسَبِ التَّمْثِيلِ : هَلْ خَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً ؟ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالِارْتِدَادِ مَثَلًا .
وَقَدِ
nindex.php?page=treesubj&link=20445اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْعُظْمَى . وَلَكِنَّ الَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ وَبِحَسَبِ الْأَثَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِهِمْ . وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهِمْ ، أَلَّا تَرَى إِلَى صُنْعِ
عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ فِي
الْخَوَارِجِ ؟ وَكَوْنِهِ عَامَلَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=9وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَتِ
الْحَرُورِيَّةُ وَفَارَقَتِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُهَيِّجْهُمْ
عَلِيٌّ وَلَا قَاتَلَهُمْ ، وَلَوْ كَانُوا بِخُرُوجِهِمْ مُرْتَدِينَ لَمْ يَتْرُكْهُمْ ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005545مِنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ، وَلِأَنَّ
أَبَا بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ .
وَأَيْضًا ، فَحِينَ ظَهَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=17115مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ
أَهْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُمْ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْهِجْرَانُ ، وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا إِلَى كُفْرٍ مَحْضٍ لَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحَدَّ الْمُقَامَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ .
nindex.php?page=showalam&ids=16673وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا لَمَّا خَرَجَ فِي زَمَانِهِ
الْحَرُورِيَّةُ بِالْمَوْصِلِ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ عَلَى حَدِّ مَا أَمَرَ بِهِ
عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ ، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ
[ ص: 695 ] مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ .
وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى ! إِنَّا وَإِنْ قُلْنَا : إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى ، وَلِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا مُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا ، إِذْ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَعَ رَدِّ مُحْكَمَاتِهَا عِنَادًا ، وَهُوَ كُفْرٌ . وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِالشَّرِيعَةَ وَمَنْ جَاءَ بِهَا ، وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ بِمِثْلِهِ ، لَا يُقَالُ : أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى بِإِطْلَاقٍ . بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي نَظَرِهِ لَكِنْ بِحَيْثُ يُمَازِجُهُ الْهَوَى فِي مَطَالِبِهِ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الشَّبَهِ فِي الْمُحَكَّمَاتِ بِسَبَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ ، فَشَارَكَ أَهْلُ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ ، وَشَارَكَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ .
وَأَيْضًا ، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ . وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ـ مَثَلًا ـ مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا ، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ . وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا ، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ أَشْبَهَ الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الْفُرُوعِ ؟
وَأَيْضًا ، فَقَدْ يُعْرَضُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ ، كَمَا رَجَعَ مِنَ
الْحَرُورِيَّةِ الْخَارِجِينَ عَلَى
عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أَلْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ الرُّجُوعِ ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْمُبْتَدِعَ
[ ص: 696 ] [ ص: 698 ] nindex.php?page=hadith&LINKID=1005546قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اكْتُبْ يَا عَلِيُّ : هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ nindex.php?page=showalam&ids=3795وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ ، يَا عَلِيُّ اكْتُبْ : هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سُفْيَانَ nindex.php?page=showalam&ids=3795وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ : فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ .