[ ص: 17 ] الحمد لله المحمود على كل حال ، الذي بحمده يستفتح كل أمر ذي بال ، خالق الخلق لما شاء ، وميسرهم على وفق علمه وإرادته ، لا على وفق أغراضهم لما سر وساء ، ومصرفهم بمقتضى القبضتين ، فمنهم شقي وسعيد ، وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ، ومسويهم على قبول الإلهامين ففاجر وتقي ، كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفين ففقير وغني ، كل منهم جار على ذلك الأسلوب فلا يعدوه ، فلو تمالئوا على أن يسدوا ذلك الفتق لم يسدوه ، أو يردوا ذلك الحكم السابق لم ينسخوه ولم يردوه ، فلا إطلاق لهم على تقييده ولا انفصال ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ) .
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا
محمد نبي الرحمة ، وكاشف الغمة ، الذي نسخت شريعته كل شريعة ، وشملت دعوته كل أمة ، فلم يبق لأحد حجة دون حجته ، ولا استقام لعاقل طريق سوى لاحب محجته ، وجمعت تحت حكمتها كل معنى مؤتلف ، فلا يسمع بعد وضعها خلاف مخالف ولا قول مختلف ، فالسالك سبيلها معدود في الفرقة الناجية ،
[ ص: 18 ] والناكب عنها مصدود إلى الفرق المقصرة أو الفرق الغالية .
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه المنيرة ، واقتفوا آثاره اللائحة وأنواره الواضحة وضوح الظهيرة ، وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بين كل نفس فاجرة ومبرورة ، وبين كل حجة بالغة وحجة مبيرة ، وعلى التابعين لهم على ذلك السبيل ، سائر المنتمين إلى ذلك القبيل ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : فإني أذكرك أيها الصديق الأوفى ، والخالصة الأصفى ، في مقدمة ينبغي تقديمها قبل الشروع في المقصود ، وهي معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005176nindex.php?page=treesubj&link=30206_28328بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا ، كما بدأ فطوبى للغرباء .
قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون عند فساد الناس .
[ ص: 19 ] [ ص: 20 ] وفي رواية : قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : النزاع من القبائل .
[ ص: 21 ] وهذا مجمل ، ولكنه مبين في الرواية الأخرى . وجاء من طريق آخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005177بدأ الإسلام غريبا ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء حين يفسد الناس .
وفي رواية
لابن وهب قال عليه الصلاة والسلام :
طوبى للغرباء الذين يمسكون بكتاب الله حين يترك ، ويعملون بالسنة حين تطفى .
وفي رواية :
إن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى [ ص: 22 ] للغرباء . قالوا : يا رسول الله كيف يكون غريبا ؟ قال : كما يقال للرجل في حي كذا وكذا : إنه لغريب .
وفي رواية :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005178أنه سئل عن الغرباء ؟ قال : الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي .
[ ص: 23 ] وجملة المعنى فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والمشاهدة في أول الإسلام وآخره :
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل ، وفي جاهلية جهلاء ، لا تعرف من الحق رسما ، ولا تقيم به في مقاطع الحقوق حكما ، بل كانت تنتحل ما وجدت عليه آباءها ، وما استحسنه أسلافها ، من الآراء المنحرفة ، والنحل المخترعة ، والمذاهب المبتدعة .
فحين قام فيهم صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر ، وغيروا في وجه صوابه بالإفك ، ونسبوا إليه إذ خالفهم في الشرعة ونابذهم في النحلة كل محال ، ورموه بأنواع البهتان ، فتارة يرمونه بالكذب وهو الصادق المصدوق ، الذي لم يجربوا عليه قط خبرا بخلاف مخبره ، وآونة يتهمونه بالسحر وفي علمهم أنه لم يكن من أهله ولا ممن يدعيه ، وكرة يقولون : إنه مجنون مع تحققهم بكمال عقله وبراءته من مس الشيطان وخبله .
[ ص: 24 ] وإذا دعاهم إلى عبادة المعبود بحق وحده لا شريك له ، قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ) ، مع الإقرار بمقتضى هذه الدعوة الصادقة : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=65فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ) .
وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة ، أنكروا ما يشاهدون من الأدلة على إمكانه ، ( وقالوا
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3أئذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد ) .
وإذا خوفهم نقمة الله ، قالوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=32اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ) ، اعتراضا على صحة ما أخبرهم به مما هو كائن لا محالة .
وإذا جاءهم بآية خارقة; افترقوا في الضلالة على فرق ، واخترقوا فيها بمجرد العناد ما لا يقبله أهل التهدي إلى التفرقة بين الحق والباطل .
كل ذلك دعاء منهم إلى التأسي بهم والموافقة لهم على ما ينتحلون ، إذ رأوا خلاف المخالف لهم في باطلهم ردا لما هم عليه ، ونبذا لما شدوا عليه يد الظنة ، واعتقدوا إذ لم يتمسكوا بدليل أن الخلاف يوهن الثقة ويقبح جهة الاستحسان ، وخصوصا حين اجتهدوا في الانتصار بعلم فلم يجدوا أكثر من تقليد الآباء .
[ ص: 25 ] ولذلك أخبر الله تعالى عن
إبراهيم عليه السلام في محاجة قومه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=70ما تعبدون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=71قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=72قال هل يسمعونكم إذ تدعون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=73أو ينفعونكم أو يضرون nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=74قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) فحادوا كما ترى عن الجواب القاطع المورد مورد السؤال إلى الاستمساك بتقليد الآباء .
وقال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=21أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون ) .
فرجعوا عن جواب ما ألزموا إلى التقليد ، فقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=24قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم ) ، فأجابوا بمجرد الإنكار ، ركونا إلى ما ذكروا من التقليد ، لا بجواب السؤال .
فكذلك كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم; لأنه خرج عن معتادهم ، وأتى بخلاف ما كانوا عليه من كفرهم وضلالهم .
حتى أرادوا أن يستنزلوه على وجه السياسة في زعمهم ، ليوقعوا بينهم وبين [ ـه ] المؤالفة والموافقة ولو في بعض الأوقات ، أو في بعض الأحوال أو على بعض الوجوه ، ويقنعوا منه بذلك; ليقف لهم بتلك الموافقة واهي بنائهم ، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا الثبوت على محض الحق والمحافظة على خالص الصواب ، وأنزل الله :
[ ص: 26 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قل ياأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ) إلى آخر السورة .
فنصبوا له عند ذلك حرب العداوة ، ورموه بسهام القطيعة ، وصار أهل السلم كلهم حربا عليه ، [ و ] عاد الولي الحميم عليه كالعذاب الأليم ، فأقربهم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالاته ،
كأبي جهل وغيره ، وألصقهم به رحما كانوا أقسى قلوبا عليه .
فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ !
ومع ذلك; فلم يكله الله إلى نفسه ، ولا سلطهم على النيل من أذاه ، إلا نيل المصلوفين ، بل حفظه وعصمه ، وتولاه بالرعاية والكلاءة ، حتى بلغ رسالة ربه .
ثم ما زالت الشريعة في أثناء نزولها ، وعلى توالي تقريرها تبعد بين أهلها وبين غيرهم ، وتضع الحدود بين حقها وبين ما ابتدعوا ، ولكن على وجه من الحكمة عجيب ، وهو التأليف بين أحكامها وبين أكابرهم في أصل الدين الأول الأصيل ، ففي العرب نسبتهم إلى أبيهم
إبراهيم عليه السلام ، وفي غيرهم لأنبيائهم المبعوثين فيهم ، كقوله تعالى بعد ذكر كثير من الأنبياء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) .
[ ص: 27 ] وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ) .
وما زال عليه الصلاة والسلام يدعو لها ، فيئوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الاختفاء ، خوفا من عادية الكفار زمان ظهورهم على دعوة الإسلام .
فلما اطلعوا على المخالفة أنفوا وقاموا وقعدوا :
فمن أهل الإسلام من لجأ إلى قبيله ، فحموه على إغماض ، أو على دفع العار في الإخفار .
ومنهم من فر من الإذاية وخوف الغرة ، هجرة إلى الله وحبا في الإسلام .
ومنهم من لم يكن له وزر يحميه ، ولا ملجأ يركن إليه ، فلقي منهم من الشدة والغلظة والعذاب أو القتل ما هو معلوم ، حتى زل منهم من زل فرجع أمره بسبب الرجوع - إلى الموافقة ، وبقي منهم من بقي صابرا محتسبا ، إلى أن أنزل الله تعالى الرخصة في النطق بكلمة الكفر على حكم الموافقة ظاهرا ، ليحصل بينهم وبين الناطق الموافقة وتزول المخالفة ، فنزل إليها من نزل على حكم التقية ، ريثما يتنفس من كربه ويتروح من خناقه ، وقلبه مطمئن بالإيمان .
وهذه غربة أيضا ظاهرة .
وإنما كان هذا جهلا منهم بمواقع الحكمة ، وأن ما جاءهم به نبيهم
[ ص: 28 ] صلى الله عليه وسلم هو الحق ضد ما هم عليه ، فمن جهل شيئا عاداه ، فلو علموا لحصل الوفاق ، ولم يسمع الخلاف ، ولكن سابق القدر حتم على الخلق ما هم عليه قال الله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) .
ثم استمر مزيد الإسلام ، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن بعد موته ، وأكثر قرن الصحابة رضي الله عنهم ، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة ، وأصغوا إلى البدع المضلة ، كبدعة القدر ، وبدعة
الخوارج ، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005179يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ; يعني : لا يتفقهون فيه ، بل يأخذونه على الظاهر; كما بينه حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر الآتي بحول الله . وهذا كله في آخر عهد الصحابة .
ثم لم تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى الله عليه وسلم :
في قوله :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005180افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، والنصارى مثل ذلك ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة .
[ ص: 29 ] وفي الحديث الآخر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005181لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا في جحر ضب ، لاتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وهذا أعم من الأول ، فإن الأول عند كثير من أهل العلم خاص بأهل الأهواء ، وهذا الثاني عام في المخالفات ، ويدل على ذلك من الحديث قوله : حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم .
وكل صاحب مخالفة ، فمن شأنه أن يدعو غيره إليها ، ويخص سؤاله بل سواه عليها ، إذ التأسي في الأفعال والمذاهب موضوع طلبه في الجبلة ، وبسببه تقع في المخالف المخالفة وتحصل من الموافق المؤالفة ، ومنه تنشأ العداوة والبغضاء للمختلفين .
كان الإسلام في أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا ، وأهله غالبون ، وسوادهم أعظم الأسودة ، فخلا من وصف الغربة بكثرة الأهل والأولياء الناصرين ، فلم يكن لغيرهم - ممن لم يسلك سبيلهم ، أو سلكه ولكنه
[ ص: 30 ] ابتدع فيه - صولة يعظم موقعها ، ولا قوة يضعف دونها حزب الله المفلحون ، فصار على استقامة ، وجرى على اجتماع واتساق ، فالشاذ مقهور مضطهد ، إلى أن أخذ اجتماعه في الافتراق الموعود ، وقوته إلى الضعف المنتظر ، والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ، واقتضى سر التأسي المطالبة بالموافقة ، ولا شك أن الغالب أغلب ، فتكالبت على سواد السنة البدع والأهواء ، فتفرق أكثرهم شيعا .
وهذه سنة الله في الخلق; أن أهل الحق في جنب أهل الباطل قليل ، لقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=103وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وقليل من عبادي الشكور ) ، ولينجز الله ما وعد به نبيه صلى الله عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه ، فإن الغربة لا تكون إلا مع فقد الأهل أو قلتهم ، وذلك حين يصير المعروف منكرا والمنكر معروفا ، وتصير السنة بدعة والبدعة سنة ، فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف ، كما كان أولا يقام على أهل البدعة; طمعا من المبتدع أن تجتمع كلمة الضلال ، ويأبى الله أن تجتمع حتى تقوم الساعة ، فلا تجتمع الفرق كلها على كثرتها على مخالفة السنة عادة وسمعا ، بل لا بد أن تثبت جماعة أهل السنة حتى يأتي أمر الله ، غير أنهم لكثرة ما تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء; استدعاء إلى موافقتهم ، لا يزالون في جهاد ونزاع ، ومدافعة وقراع ، آناء الليل والنهار ، وبذلك يضاعف الله لهم الأجر الجزيل ويثيبهم
[ ص: 31 ] الثواب العظيم .
فقد تلخص مما تقدم أن مطالبة المخالفة بالموافقة جار مع الأزمان ، لا يختص بزمان دون زمان ، فمن وافق; فهو عند المطالب المصيب على أي حال كان ، ومن خالف; فهو المخطئ المصاب ، ومن وافق; فهو المحمود السعيد ، ومن خالف; فهو المذموم المطرود ، ومن وافق ، فقد سلك سبيل الهداية ، ومن خالف : فقد تاه في طرق الضلالة والغواية .
وإنما قدمت هذه المقدمة لمعنى أذكره :
وذلك أني ولله الحمد لم أزل منذ فتق للفهم عقلي ، ووجه شطر العلم طلبي أنظر في عقلياته وشرعياته ، وأصوله وفروعه ، لم أقتصر منه على علم دون علم ، ولا أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر ، حسبما اقتضاه الزمان والمكان ، وأعطته المنة المخلوقة في أصل فطرتي ، بل خضت في لججه خوض المحسن للسباحة ، وأقدمت في ميادينه إقدام الجريء ، حتى كدت أتلف في بعض أعماقه ، أو أنقطع في رفقتي التي بالأنس بها تجاسرت على ما قدر لي ، غائبا عن مقال القائل وعذل العاذل ، ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللائم ، إلى أن من علي الرب الكريم الرءوف الرحيم ، فشرح لي من معاني الشريعة ما لم يكن في حسابي ، وألقى في نفسي القاصرة : أن كتاب الله وسنة نبيه لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول ولا أبقيا لغيرهما مجالا يعتد فيه ، وأن الدين قد كمل ، والسعادة الكبرى فيما وضع ، والطلبة فيما شرع ، وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران ، وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى محصل لكلمتي الخير دنيا وأخرى ، وما
[ ص: 32 ] سواهما فأحلام وخيالات وأوهام ، وقام لي على صحة ذلك البرهان الذي لا شبهة تطرق حول حماه ، ولا ترتمي نحو مرماه : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=38ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ) ، والحمد لله والشكر كثيرا كما هو أهله .
فمن هنالك قويت نفسي على المشي في طريقه بمقدار ما يسر الله فيه ، فابتدأت بأصول الدين عملا واعتقادا ، ثم بفروعه المبنية على تلك الأصول ، وفي خلال ذلك أتبين ما هو من السنن أو من البدع ، كما أتبين ما هو من الجائز وما هو من الممتنع ، وأعرض ذلك على علم الأصول الدينية والفقهية ، ثم أطالب نفسي بالمشي مع الجماعة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسواد الأعظم في الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه ، وترك البدع
[ ص: 33 ] التي نص عليها العلماء أنها بدع وأعمال مختلفة .
وكنت في أثناء ذلك قد دخلت في بعض خطط الجمهور من الخطابة والإمامة ونحوها ، فلما أردت الاستقامة على طريق; وجدت نفسي غريبا في جمهور أهل الوقت; لكون خططهم قد غلبت عليها العوائد ، ودخلت على سننها الأصلية شوائب من المحدثات الزوائد ، ولم يكن ذلك بدعا في الأزمنة المتقدمة ، فكيف في زماننا هذا ؟ ! فقد روي عن السلف الصالح من التنبيه على ذلك كثير :
كما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء أنه قال : لو خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليكم ما عرف شيئا مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم ؟
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16753عيسى بن يونس : فكيف لو أدرك
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي هذا الزمان ؟
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12328أم الدرداء قالت : دخل
أبو الدراداء وهو غضبان ، فقلت : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم شيئا من أمر
محمد إلا أنهم يصلون جميعا .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك ; قال : ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قولكم : لا إله إلا الله . قلنا : بلى يا
أبا حمزة . قال : قد صليتم حتى تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ !
[ ص: 34 ] وعن
أنس ; قال : لو أن رجلا أدرك السلف الأول ، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئا . قال : ووضع يده على خده ، ثم قال : إلا هذه الصلاة .
ثم قال : أما والله - على ذلك - لمن عاش في النكر ، ولم يدرك ذلك السلف الصالح ، فرأى مبتدعا يدعو إلى بدعته ، ورأى صاحب دنيا يدعو إلى دنياه ، فعصمه الله من ذلك ، وجعل قلبه يحن إلى ذلك السلف الصالح ، يسأل عن سبلهم ، ويقتص آثارهم ، ويتبع سبيلهم ، ليعوض أجرا عظيما ، وكذلك فكونوا إن شاء الله .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران; قال : لو أن رجلا أنشر فيكم من السلف ، ما عرف غير هذه القبلة .
وعن
سهل بن مالك عن أبيه ، قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة .
إلى ما أشبه هذا من الآثار الدالة على أن المحدثات تدخل في المشروعات ، وأن ذلك قد كان قبل زماننا ، وإنما تتكاثر على توالي الدهور إلى الآن .
فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس ; فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد ، ولا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها ، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل ، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح ، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك ، إلا أني أوافق
[ ص: 35 ] المعتاد ، وأعد من المؤالفين لا من المخالفين ؟ !
فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة ، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا ، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور ، فقامت علي القيامة ، وتواترت علي الملامة ، وفوق إلي العتاب سهامه ، ونسبت إلى البدعة والضلالة ، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة .
وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا; لوجدت ؛ غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالا رحبا ، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات ، لموافقات العادات ، أولى من اتباع الواضحات ، وإن خالفت السلف الأول .
وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب ، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة :
فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس ، بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حالة الإمامة . وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة وللسلف الصالح والعلماء .
وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة رضي الله عنهم ، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص ، إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم ، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب :
[ ص: 36 ] وقد سئل (
أصبغ ) عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين ؟ فقال : هو بدعة ولا ينبغي العمل به ، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة .
قيل له : فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال : ما أرى به بأسا عند الحاجة إليه ، وأما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما ، فإني أكره ذلك .
ونص أيضا
عز الدين بن عبد السلام : على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة .
وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة ، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة ، وذكرهم فيه محدث لم يكن عليه من تقدم .
وتارة حمل علي التزام الحرج والتنطع في الدين ، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه ، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه ، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره ، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك ، وللمسألة بسط في كتاب ( الموافقات ) .
وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله ، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة المنتصبين بزعمهم لهداية الخلق ، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى
[ ص: 37 ] الصوفية ولم يتشبهوا بهم .
وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة ، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها وهي الناجية ما عليه العموم ، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان . وسيأتي بيان ذلك بحول الله .
وكذبوا علي في جميع ذلك ، أو وهموا ، والحمد لله على كل حال .
فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير
عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن نفسه فقال :
" عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني والأبعدين ، والعارفين والمنكرين ، فإني وجدت
بمكة وخراسان وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا ، دعاني إلى متابعته على ما يقوله ، وتصديق قوله ، والشهادة له ، فإن كنت صدقت فيما يقول وأجزت له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان; سماني موافقا ، وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله سماني مخالفا ، وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد ، سماني خارجيا ، وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد ، سماني مشبها ، وإن كان في الرؤية; سماني سالميا ، وإن كان في الإيمان سماني مرجئا ، وإن كان في الأعمال ، سماني قدريا ، وإن كان في المعرفة سماني كراميا ، وإن كان في فضائل
أبي بكر وعمر ، سماني ناصبيا ، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضيا ، وإن سكت عن
[ ص: 38 ] تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما ، سماني ظاهريا ، وإن أجبت بغيرهما ، سماني باطنيا ، وإن أجبت بتأويل ، سماني أشعريا ، وإن جحدتهما ، سماني معتزليا ، وإن كان في السنن مثل القراءة ، سماني شفعويا ، وإن كان في القنوت سماني حنفيا ، وإن كان في القرآن ، سماني حنبليا ، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخبار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة قالوا : طعن في تزكيتهم .
ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي ، ومهما وافقت بعضهم; عاداني غيره ، وإن داهنت جماعتهم ، أسخطت الله تبارك وتعالى ، ولن يغنوا عني من الله شيئا . وإني مستمسك بالكتاب والسنة وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم .
هذا تمام الحكاية ، فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع ، فقلما تجد عالما مشهورا أو فاضلا مذكورا ، إلا وقد نبذ بهذه الأمور أو بعضها ، لأن الهوى قد يداخل المخالف ، بل سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف ، فإذا كان كذلك ، حمل على صاحب السنة ، أنه غير صاحبها ، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله ،
[ ص: 39 ] حتى ينسب هذه المناسب .
وقد نقل عن سيد العباد بعد الصحابة (
nindex.php?page=showalam&ids=12338أويس ) القرني أنه قال : إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا : نأمرهم بالمعروف ، فيشتمون أعراضنا ، ويجدون في ذلك أعوانا من الفاسقين ، حتى والله لقد رموني بالعظائم ، وايم الله ، لا أدع أن أقوم فيهم بحقه .
فمن هذا الباب يرجع الإسلام غريبا كما بدأ ، لأن المؤالف فيه على وصفه الأول قليل ، فصار المخالف هو الكثير ، فاندرست رسوم السنة حتى مدت البدع أعناقها ، فأشكل مرماها على الجمهور ، فظهر مصداق الحديث الصحيح .
[ ص: 17 ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَحْمُودِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، الَّذِي بِحَمْدِهِ يُسْتَفْتَحُ كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ ، خَالِقِ الْخَلْقِ لِمَا شَاءَ ، وَمُيَسِّرِهِمْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ ، لَا عَلَى وَفْقِ أَغْرَاضِهِمْ لِمَا سَرَّ وَسَاءَ ، وَمُصَرِّفِهِمْ بِمُقْتَضَى الْقَبْضَتَيْنِ ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ، وَهَدَاهُمُ النَّجْدَيْنِ فَمِنْهُمْ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ ، وَمُسَوِّيهِمْ عَلَى قَبُولِ الْإِلْهَامَيْنِ فَفَاجِرٌ وَتَقِيٌّ ، كَمَا قَدَّرَ أَرْزَاقَهُمْ بِالْعَدْلِ عَلَى حُكْمِ الطَّرَفَيْنِ فَفَقِيرٌ وَغَنِيٌّ ، كُلٌّ مِنْهُمْ جَارٍ عَلَى ذَلِكَ الْأُسْلُوبِ فَلَا يَعْدُوهُ ، فَلَوْ تَمَالَئُوا عَلَى أَنْ يَسُدُّوا ذَلِكَ الْفَتْقَ لَمْ يَسُدُّوهُ ، أَوْ يَرُدُّوا ذَلِكَ الْحُكْمَ السَّابِقَ لَمْ يَنْسَخُوهُ وَلَمْ يَرُدُّوهُ ، فَلَا إِطْلَاقَ لَهُمْ عَلَى تَقْيِيدِهِ وَلَا انْفِصَالَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=15وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ) .
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا
مُحَمَّدٍ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ ، وَكَاشِفِ الْغُمَّةِ ، الَّذِي نَسَخَتْ شَرِيعَتُهُ كُلَّ شَرِيعَةٍ ، وَشَمَلَتْ دَعْوَتُهُ كُلَّ أُمَّةٍ ، فَلَمْ يَبْقَ لِأَحَدٍ حُجَّةٌ دُونَ حُجَّتِهِ ، وَلَا اسْتَقَامَ لِعَاقِلٍ طَرِيقٌ سِوَى لَاحِبِ مَحَجَّتِهِ ، وَجَمَعَتْ تَحْتَ حِكْمَتِهَا كُلَّ مَعْنًى مُؤْتَلِفٍ ، فَلَا يُسْمَعُ بَعْدَ وَضْعِهَا خِلَافُ مُخَالِفٍ وَلَا قَوْلُ مُخْتَلِفٍ ، فَالسَّالِكُ سَبِيلَهَا مَعْدُودٌ فِي الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ ،
[ ص: 18 ] وَالنَّاكِبُ عَنْهَا مَصْدُودٌ إِلَى الْفِرَقِ الْمُقَصِّرَةِ أَوِ الْفِرَقِ الْغَالِيَةِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِشَمْسِهِ الْمُنِيرَةِ ، وَاقْتَفَوْا آثَارَهُ اللَّائِحَةَ وَأَنْوَارَهُ الْوَاضِحَةَ وُضُوحَ الظَّهِيرَةِ ، وَفَرَّقُوا بِصَوَارِمِ أَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ فَاجِرَةٍ وَمَبْرُورَةٍ ، وَبَيْنَ كُلِّ حُجَّةٍ بَالِغَةٍ وَحُجَّةٍ مُبِيرَةٍ ، وَعَلَى التَّابِعِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ السَّبِيلِ ، سَائِرِ الْمُنْتَمِينَ إِلَى ذَلِكَ الْقَبِيلِ ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنِّي أُذَكِّرُكَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ الْأَوْفَى ، وَالْخَالِصَةُ الْأَصْفَى ، فِي مُقَدِّمَةٍ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ ، وَهِيَ مَعْنَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005176nindex.php?page=treesubj&link=30206_28328بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا ، كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ .
قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُصْلِحُونَ عِنْدَ فَسَادِ النَّاسِ .
[ ص: 19 ] [ ص: 20 ] وَفِي رِوَايَةٍ : قِيلَ : وَمَنِ الْغُرَبَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ .
[ ص: 21 ] وَهَذَا مُجْمَلٌ ، وَلَكِنَّهُ مُبَيَّنٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى . وَجَاءَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005177بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ حِينَ يَفْسُدُ النَّاسُ .
وَفِي رِوَايَةٍ
لِابْنِ وَهْبٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ يُمْسِكُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ حِينَ يُتْرَكُ ، وَيَعْمَلُونَ بِالسُّنَّةِ حِينَ تُطْفَى .
وَفِي رِوَايَةٍ :
إِنَّ الْإِسْلَامَ بَدَأَ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، فَطُوبَى [ ص: 22 ] لِلْغُرَبَاءِ . قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَكُونُ غَرِيبًا ؟ قَالَ : كَمَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ فِي حَيِّ كَذَا وَكَذَا : إِنَّهُ لَغَرِيبٌ .
وَفِي رِوَايَةٍ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005178أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْغُرَبَاءِ ؟ قَالَ : الَّذِينَ يُحْيُونَ مَا أَمَاتَ النَّاسُ مِنْ سُنَّتِي .
[ ص: 23 ] وَجُمْلَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ جِهَةِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ مَا ظَهَرَ بِالْعِيَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ وَآخِرِهِ :
وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَفِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ ، لَا تَعْرِفُ مِنَ الْحَقِّ رَسْمًا ، وَلَا تُقِيمُ بِهِ فِي مَقَاطِعِ الْحُقُوقِ حُكْمًا ، بَلْ كَانَتْ تَنْتَحِلُ مَا وَجَدَتْ عَلَيْهِ آبَاءَهَا ، وَمَا اسْتَحْسَنَهُ أَسْلَافُهَا ، مِنَ الْآرَاءِ الْمُنْحَرِفَةِ ، وَالنِّحَلِ الْمُخْتَرَعَةِ ، وَالْمَذَاهِبِ الْمُبْتَدَعَةِ .
فَحِينَ قَامَ فِيهِمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، فَسُرْعَانَ مَا عَارَضُوا مَعْرُوفَهُ بِالنُّكْرِ ، وَغَيَّرُوا فِي وَجْهِ صَوَابِهِ بِالْإِفْكِ ، وَنَسَبُوا إِلَيْهِ إِذْ خَالَفَهُمْ فِي الشِّرْعَةِ وَنَابَذَهُمْ فِي النِّحْلَةِ كُلَّ مُحَالٍ ، وَرَمَوْهُ بِأَنْوَاعِ الْبُهْتَانِ ، فَتَارَةً يَرْمُونَهُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ، الَّذِي لَمْ يُجَرِّبُوا عَلَيْهِ قَطُّ خَبَرًا بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ ، وَآوِنَةً يَتَّهِمُونَهُ بِالسِّحْرِ وَفِي عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ وَلَا مِمَّنْ يَدَّعِيهِ ، وَكَرَّةً يَقُولُونَ : إِنَّهُ مَجْنُونٌ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ بِكَمَالِ عَقْلِهِ وَبَرَاءَتِهِ مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ وَخَبَلِهِ .
[ ص: 24 ] وَإِذَا دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْمَعْبُودِ بِحَقٍّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=5أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ، مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ الصَّادِقَةِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=29&ayano=65فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) .
وَإِذَا أَنْذَرَهُمْ بَطْشَةَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، أَنْكَرُوا مَا يُشَاهِدُونَ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِمْكَانِهِ ، ( وَقَالُوا
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=3أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ) .
وَإِذَا خَوَّفَهُمْ نِقْمَةَ اللَّهِ ، قَالُوا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=32اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) ، اعْتِرَاضًا عَلَى صِحَّةِ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ .
وَإِذَا جَاءَهُمْ بِآيَةٍ خَارِقَةٍ; افْتَرَقُوا فِي الضَّلَالَةِ عَلَى فِرَقٍ ، وَاخْتَرَقُوا فِيهَا بِمُجَرَّدِ الْعِنَادِ مَا لَا يَقْبَلُهُ أَهْلُ التَّهَدِّي إِلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ .
كُلُّ ذَلِكَ دُعَاءٌ مِنْهُمْ إِلَى التَّأَسِّي بِهِمْ وَالْمُوَافَقَةِ لَهُمْ عَلَى مَا يَنْتَحِلُونَ ، إِذْ رَأَوْا خِلَافَ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي بَاطِلِهِمْ رَدًّا لِمَا هُمْ عَلَيْهِ ، وَنَبْذًا لِمَا شَدُّوا عَلَيْهِ يَدَ الظِّنَّةِ ، وَاعْتَقَدُوا إِذْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا بِدَلِيلٍ أَنَّ الْخِلَافَ يُوهِنُ الثِّقَةَ وَيُقَبِّحُ جِهَةَ الِاسْتِحْسَانِ ، وَخُصُوصًا حِينَ اجْتَهَدُوا فِي الِانْتِصَارِ بِعِلْمٍ فَلَمْ يَجِدُوا أَكْثَرَ مِنْ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ .
[ ص: 25 ] وَلِذَلِكَ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي مُحَاجَّةِ قَوْمِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=70مَا تَعْبُدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=71قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=72قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=73أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=74قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ) فَحَادُوا كَمَا تَرَى عَنِ الْجَوَابِ الْقَاطِعِ الْمُورَدِ مَوْرِدَ السُّؤَالِ إِلَى الِاسْتِمْسَاكِ بِتَقْلِيدِ الْآبَاءِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=21أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=22بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ) .
فَرَجَعُوا عَنْ جَوَابِ مَا أُلْزِمُوا إِلَى التَّقْلِيدِ ، فَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=43&ayano=24قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ) ، فَأَجَابُوا بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ ، رُكُونًا إِلَى مَا ذَكَرُوا مِنَ التَّقْلِيدِ ، لَا بِجَوَابِ السُّؤَالِ .
فَكَذَلِكَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْكَرُوا مَا تَوَقَّعُوا مَعَهُ زَوَالَ مَا بِأَيْدِيهِمْ; لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُعْتَادِهِمْ ، وَأَتَى بِخِلَافِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ كُفْرِهِمْ وَضَلَالِهِمْ .
حَتَّى أَرَادُوا أَنْ يَسْتَنْزِلُوهُ عَلَى وَجْهِ السِّيَاسَةِ فِي زَعْمِهِمْ ، لِيُوقِعُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ [ ـهُ ] الْمُؤَالَفَةَ وَالْمُوَافَقَةَ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ ، وَيَقْنَعُوا مِنْهُ بِذَلِكَ; لِيَقِفَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُوَافَقَةِ وَاهِي بِنَائِهِمْ ، فَأَبَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَّا الثُّبُوتَ عَلَى مَحْضِ الْحَقِّ وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى خَالِصِ الصَّوَابِ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ :
[ ص: 26 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=109&ayano=1قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) إِلَى آخِرِ السُّورَةِ .
فَنَصَبُوا لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ حَرْبَ الْعَدَاوَةِ ، وَرَمَوْهُ بِسِهَامِ الْقَطِيعَةِ ، وَصَارَ أَهْلُ السِّلْمِ كُلُّهُمْ حَرْبًا عَلَيْهِ ، [ وَ ] عَادَ الْوَلِيُّ الْحَمِيمُ عَلَيْهِ كَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، فَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ مُوَالَاتِهِ ،
كَأَبِي جَهْلٍ وَغَيْرِهِ ، وَأَلْصَقُهُمْ بِهِ رَحِمًا كَانُوا أَقْسَى قُلُوبًا عَلَيْهِ .
فَأَيُّ غُرْبَةٍ تُوَازِي هَذِهِ الْغُرْبَةَ ؟ !
وَمَعَ ذَلِكَ; فَلَمْ يَكِلْهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ ، وَلَا سَلَّطَهُمْ عَلَى النَّيْلِ مِنْ أَذَاهُ ، إِلَّا نَيْلَ الْمَصْلُوفِينَ ، بَلْ حَفِظَهُ وَعَصَمَهُ ، وَتَوَلَّاهُ بِالرِّعَايَةِ وَالْكِلَاءَةِ ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ .
ثُمَّ مَا زَالَتِ الشَّرِيعَةُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِهَا ، وَعَلَى تَوَالِي تَقْرِيرِهَا تُبْعِدُ بَيْنَ أَهْلِهَا وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ ، وَتَضَعُ الْحُدُودَ بَيْنَ حَقِّهَا وَبَيْنَ مَا ابْتَدَعُوا ، وَلَكِنْ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ عَجِيبٍ ، وَهُوَ التَّأْلِيفُ بَيْنَ أَحْكَامِهَا وَبَيْنَ أَكَابِرِهِمْ فِي أَصْلِ الدِّينِ الْأَوَّلِ الْأَصِيلِ ، فَفِي الْعَرَبِ نِسْبَتُهُمْ إِلَى أَبِيهِمْ
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفِي غَيْرِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمُ الْمَبْعُوثِينَ فِيهِمْ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=90أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) .
[ ص: 27 ] وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=13شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ) .
وَمَا زَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدْعُو لَهَا ، فَيَئُوبُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ بَعْدَ الْوَاحِدِ عَلَى حُكْمِ الِاخْتِفَاءِ ، خَوْفًا مِنْ عَادِيَةِ الْكُفَّارِ زَمَانَ ظُهُورِهِمْ عَلَى دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ .
فَلَمَّا اطَّلَعُوا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَنِفُوا وَقَامُوا وَقَعَدُوا :
فَمِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مَنْ لَجَأَ إِلَى قَبِيلِهِ ، فَحَمَوْهُ عَلَى إِغْمَاضٍ ، أَوْ عَلَى دَفْعِ الْعَارِ فِي الْإِخْفَارِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّ مِنَ الْإِذَايَةِ وَخَوْفِ الْغِرَّةِ ، هِجْرَةً إِلَى اللَّهِ وَحُبًّا فِي الْإِسْلَامِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَزِرٌ يَحْمِيهِ ، وَلَا مَلْجَأٌ يَرْكَنُ إِلَيْهِ ، فَلَقِيَ مِنْهُمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْغِلْظَةِ وَالْعَذَابِ أَوِ الْقَتْلِ مَا هُوَ مَعْلُومٌ ، حَتَّى زَلَّ مِنْهُمْ مَنْ زَلَّ فَرَجَعَ أَمْرُهُ بِسَبَبِ الرُّجُوعِ - إِلَى الْمُوَافَقَةِ ، وَبَقِيَ مِنْهُمْ مَنْ بَقِيَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا ، إِلَى أَنْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الرُّخْصَةَ فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَافَقَةِ ظَاهِرًا ، لِيَحْصُلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاطِقِ الْمُوَافَقَةُ وَتَزُولَ الْمُخَالَفَةُ ، فَنَزَلَ إِلَيْهَا مَنْ نَزَلَ عَلَى حُكْمِ التَّقِيَّةِ ، رَيْثَمَا يَتَنَفَّسُ مِنْ كَرْبِهِ وَيَتَرَوَّحُ مِنْ خِنَاقِهِ ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ .
وَهَذِهِ غُرْبَةٌ أَيْضًا ظَاهِرَةٌ .
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاقِعِ الْحِكْمَةِ ، وَأَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ
[ ص: 28 ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْحَقُّ ضِدَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ ، فَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ ، فَلَوْ عَلِمُوا لَحَصَلَ الْوِفَاقُ ، وَلَمْ يُسْمَعِ الْخِلَافُ ، وَلَكِنَّ سَابِقَ الْقَدَرِ حَتَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) .
ثُمَّ اسْتَمَرَّ مَزِيدُ الْإِسْلَامِ ، وَاسْتَقَامَ طَرِيقُهُ عَلَى مُدَّةِ حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ ، وَأَكْثَرِ قَرْنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، إِلَى أَنْ نَبَغَتْ فِيهِمْ نَوَابِغُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ ، وَأَصْغَوْا إِلَى الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ ، كَبِدْعَةِ الْقَدَرِ ، وَبِدْعَةِ
الْخَوَارِجِ ، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا الْحَدِيثُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005179يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ ; يَعْنِي : لَا يَتَفَقَّهُونَ فِيهِ ، بَلْ يَأْخُذُونَهُ عَلَى الظَّاهِرِ; كَمَا بَيَّنَهُ حَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ الْآتِي بِحَوْلِ اللَّهِ . وَهَذَا كُلُّهُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ .
ثُمَّ لَمْ تَزَلِ الْفِرَقُ تَكْثُرُ حَسْبَمَا وَعَدَ بِهِ الصَّادِقُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005180افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً .
[ ص: 29 ] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=1005181لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ ، لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ : الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ؟ قَالَ : فَمَنْ ؟ وَهَذَا أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ خَاصٌّ بِأَهْلِ الْأَهْوَاءِ ، وَهَذَا الثَّانِي عَامٌّ فِي الْمُخَالَفَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ : حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ .
وَكُلُّ صَاحِبِ مُخَالَفَةٍ ، فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَدْعُوَ غَيْرَهُ إِلَيْهَا ، وَيَخُصَّ سُؤَالَهُ بَلْ سِوَاهُ عَلَيْهَا ، إِذِ التَّأَسِّي فِي الْأَفْعَالِ وَالْمَذَاهِبِ مَوْضُوعٌ طَلَبُهُ فِي الْجِبِلَّةِ ، وَبِسَبَبِهِ تَقَعُ فِي الْمُخَالِفِ الْمُخَالَفَةُ وَتَحْصُلُ مِنَ الْمُوَافِقِ الْمُؤَالَفَةُ ، وَمِنْهُ تَنْشَأُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ لِلْمُخْتَلِفِينَ .
كَانَ الْإِسْلَامُ فِي أَوَّلِهِ وَجِدَّتِهِ مُقَاوِمًا بَلْ ظَاهِرًا ، وَأَهْلُهُ غَالِبُونَ ، وَسَوَادُهُمْ أَعْظَمُ الْأَسْوِدَةِ ، فَخَلَا مِنْ وَصْفِ الْغُرْبَةِ بِكَثْرَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلِيَاءِ النَّاصِرِينَ ، فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِمْ - مِمَّنْ لَمْ يَسْلُكْ سَبِيلَهُمْ ، أَوْ سَلَكَهُ وَلَكِنَّهُ
[ ص: 30 ] ابْتَدَعَ فِيهِ - صَوْلَةٌ يَعْظُمُ مَوْقِعُهَا ، وَلَا قُوَّةٌ يَضْعُفُ دُونَهَا حِزْبُ اللَّهِ الْمُفْلِحُونَ ، فَصَارَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ ، وَجَرَى عَلَى اجْتِمَاعٍ وَاتِّسَاقٍ ، فَالشَّاذُّ مَقْهُورٌ مُضْطَهَدٌ ، إِلَى أَنْ أَخَذَ اجْتِمَاعُهُ فِي الِافْتِرَاقِ الْمَوْعُودِ ، وَقُوَّتُهُ إِلَى الضَّعْفِ الْمُنْتَظَرِ ، وَالشَّاذُّ عَنْهُ تَقْوَى صَوْلَتُهُ وَيَكْثُرُ سَوَادُهُ ، وَاقْتَضَى سِرُّ التَّأَسِّي الْمُطَالَبَةَ بِالْمُوَافَقَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ أَغْلَبُ ، فَتَكَالَبَتْ عَلَى سَوَادِ السُّنَّةِ الْبِدَعُ وَالْأَهْوَاءُ ، فَتَفَرَّقَ أَكْثَرُهُمْ شِيَعًا .
وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْخَلْقِ; أَنَّ أَهْلَ الْحَقِّ فِي جَنْبِ أَهْلِ الْبَاطِلِ قَلِيلٌ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=103وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ) ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=34&ayano=13وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) ، وَلِيُنْجِزَ اللَّهُ مَا وَعَدَ بِهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَوْدِ وَصْفِ الْغُرْبَةِ إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْغُرْبَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ فَقْدِ الْأَهْلِ أَوْ قِلَّتِهِمْ ، وَذَلِكَ حِينَ يَصِيرُ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا ، وَتَصِيرُ السُّنَّةُ بِدْعَةً وَالْبِدْعَةُ سُنَّةً ، فَيُقَامُ عَلَى أَهْلِ السُّنَّةِ بِالتَّثْرِيبِ وَالتَّعْنِيفِ ، كَمَا كَانَ أَوَّلًا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الْبِدْعَةِ; طَمَعًا مِنَ الْمُبْتَدِعِ أَنْ تَجْتَمِعَ كَلِمَةُ الضَّلَالِ ، وَيَأْبَى اللَّهُ أَنْ تَجْتَمِعَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْفِرَقُ كُلُّهُا عَلَى كَثْرَتِهَا عَلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ عَادَةً وَسَمْعًا ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ تَثْبُتَ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِكَثْرَةِ مَا تُنَاوِشُهُمُ الْفِرَقُ الضَّالَّةُ وَتُنَاصِبُهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ; اسْتِدْعَاءً إِلَى مُوَافَقَتِهِمْ ، لَا يَزَالُونَ فِي جِهَادٍ وَنِزَاعٍ ، وَمُدَافَعَةٍ وَقِرَاعٍ ، آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَبِذَلِكَ يُضَاعِفُ اللَّهُ لَهُمُ الْأَجْرَ الْجَزِيلَ وَيُثِيبُهُمْ
[ ص: 31 ] الثَّوَابَ الْعَظِيمَ .
فَقَدْ تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مُطَالَبَةَ الْمُخَالَفَةِ بِالْمُوَافَقَةِ جَارٍ مَعَ الْأَزْمَانِ ، لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ، فَمَنْ وَافَقَ; فَهُوَ عِنْدَ الْمُطَالِبِ الْمُصِيبُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ ، وَمَنْ خَالَفَ; فَهُوَ الْمُخْطِئُ الْمُصَابُ ، وَمَنْ وَافَقَ; فَهُوَ الْمَحْمُودُ السَّعِيدُ ، وَمَنْ خَالَفَ; فَهُوَ الْمَذْمُومُ الْمَطْرُودُ ، وَمَنْ وَافَقَ ، فَقَدْ سَلَكَ سَبِيلَ الْهِدَايَةِ ، وَمَنْ خَالَفَ : فَقَدْ تَاهَ فِي طُرُقِ الضَّلَالَةِ وَالْغِوَايَةِ .
وَإِنَّمَا قَدَّمْتُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ لِمَعْنًى أَذْكُرُهُ :
وَذَلِكَ أَنِّي وَلِلَّهِ الْحَمْدُ لَمْ أَزَلْ مُنْذُ فَتَقَ لِلْفَهْمِ عَقْلِي ، وَوُجِّهَ شَطْرَ الْعِلْمِ طَلَبِي أَنْظُرُ فِي عَقْلِيَّاتِهِ وَشَرْعِيَّاتِهِ ، وَأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ ، لَمْ أَقْتَصِرْ مِنْهُ عَلَى عِلْمٍ دُونَ عِلْمٍ ، وَلَا أَفْرَدْتُ عَنْ أَنْوَاعِهِ نَوْعًا دُونَ آخَرَ ، حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ ، وَأَعْطَتْهُ الْمِنَّةُ الْمَخْلُوقَةُ فِي أَصْلِ فِطْرَتِي ، بَلْ خُضْتُ فِي لُجَجِهِ خَوْضَ الْمُحْسِنِ لِلسِّبَاحَةِ ، وَأَقْدَمْتُ فِي مَيَادِينِهِ إِقْدَامَ الْجَرِيءِ ، حَتَّى كِدْتُ أَتْلَفُ فِي بَعْضِ أَعْمَاقِهِ ، أَوْ أَنْقَطِعُ فِي رُفْقَتِي الَّتِي بِالْأُنْسِ بِهَا تَجَاسَرْتُ عَلَى مَا قُدِّرَ لِي ، غَائِبًا عَنْ مَقَالِ الْقَائِلِ وَعَذْلِ الْعَاذِلِ ، وَمُعْرِضًا عَنْ صَدِّ الصَّادِّ وَلَوْمِ اللَّائِمِ ، إِلَى أَنْ مَنَّ عَلَيَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ ، فَشَرَحَ لِي مِنْ مَعَانِي الشَّرِيعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي حِسَابِي ، وَأَلْقَى فِي نَفْسِي الْقَاصِرَةِ : أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ لَمْ يَتْرُكَا فِي سَبِيلِ الْهِدَايَةِ لِقَائِلٍ مَا يَقُولُ وَلَا أَبْقَيَا لِغَيْرِهِمَا مَجَالًا يُعْتَدُّ فِيهِ ، وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ ، وَالسَّعَادَةَ الْكُبْرَى فِيمَا وَضَعَ ، وَالطِّلْبَةَ فِيمَا شَرَعَ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَضَلَالٌ وَبُهْتَانٌ وَإِفْكٌ وَخُسْرَانٌ ، وَأَنَّ الْعَاقِدَ عَلَيْهِمَا بِكِلْتَا يَدَيْهِ مُسْتَمْسِكٌ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى مُحَصِّلٌ لِكَلِمَتَيِ الْخَيْرِ دُنْيَا وَأُخْرَى ، وَمَا
[ ص: 32 ] سِوَاهُمَا فَأَحْلَامٌ وَخَيَالَاتٌ وَأَوْهَامٌ ، وَقَامَ لِي عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ تُطْرَقُ حَوْلَ حِمَاهُ ، وَلَا تَرْتَمِي نَحْوَ مَرْمَاهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=38ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ) ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَالشُّكْرُ كَثِيرًا كَمَا هُوَ أَهْلُهُ .
فَمِنْ هُنَالِكَ قَوِيَتْ نَفْسِي عَلَى الْمَشْيِ فِي طَرِيقِهِ بِمِقْدَارِ مَا يَسَّرَ اللَّهُ فِيهِ ، فَابْتَدَأْتُ بِأُصُولِ الدِّينِ عَمَلًا وَاعْتِقَادًا ، ثُمَّ بِفُرُوعِهِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ ، وَفِي خِلَالِ ذَلِكَ أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ السُّنَنِ أَوْ مِنَ الْبِدَعِ ، كَمَا أَتَبَيَّنُ مَا هُوَ مِنَ الْجَائِزِ وَمَا هُوَ مِنَ الْمُمْتَنِعِ ، وَأَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ الدِّينِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ ، ثُمَّ أُطَالِبُ نَفْسِي بِالْمَشْيِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّوَادِ الْأَعْظَمِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ، وَتَرْكِ الْبِدَعِ
[ ص: 33 ] الَّتِي نَصَّ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ أَنَّهَا بِدَعٌ وَأَعْمَالٌ مُخْتَلِفَةٌ .
وَكُنْتُ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ قَدْ دَخَلْتُ فِي بَعْضِ خُطَطِ الْجُمْهُورِ مِنَ الْخَطَابَةِ وَالْإِمَامَةِ وَنَحْوِهَا ، فَلَمَّا أَرَدْتُ الِاسْتِقَامَةَ عَلَى طَرِيقٍ; وَجَدْتُ نَفْسِي غَرِيبًا فِي جُمْهُورِ أَهْلِ الْوَقْتِ; لِكَوْنِ خُطَطِهِمْ قَدْ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْعَوَائِدُ ، وَدَخَلَتْ عَلَى سُنَنِهَا الْأَصْلِيَّةِ شَوَائِبُ مِنَ الْمُحْدَثَاتِ الزَّوَائِدِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِدْعًا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَكَيْفَ فِي زَمَانِنَا هَذَا ؟ ! فَقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ :
كَمَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=4أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْكُمْ مَا عَرَفَ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ إِلَّا الصَّلَاةَ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13760الْأَوْزَاعِيُّ : فَكَيْفَ لَوْ كَانَ الْيَوْمَ ؟
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16753عِيسَى بْنُ يُونُسَ : فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ
nindex.php?page=showalam&ids=13760الْأَوْزَاعِيُّ هَذَا الزَّمَانَ ؟
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=12328أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : دَخَلَ
أَبُو الدَّرْادَاءِ وَهُوَ غَضْبَانُ ، فَقُلْتُ : مَا أَغْضَبَكَ ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ فِيهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ
مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=9أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ; قَالَ : مَا أَعْرِفُ مِنْكُمْ مَا كُنْتُ أَعْهَدُهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ قَوْلِكُمْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . قُلْنَا : بَلَى يَا
أَبَا حَمْزَةَ . قَالَ : قَدْ صَلَّيْتُمْ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ ، أَفَكَانَتْ تِلْكَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ !
[ ص: 34 ] وَعَنْ
أَنَسٍ ; قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَدْرَكَ السَّلَفَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ بُعِثَ الْيَوْمَ مَا عَرَفَ مِنَ الْإِسْلَامِ شَيْئًا . قَالَ : وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى خَدِّهِ ، ثُمَّ قَالَ : إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ .
ثُمَّ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ - عَلَى ذَلِكَ - لَمَنْ عَاشَ فِي النُّكْرِ ، وَلَمْ يُدْرِكْ ذَلِكَ السَّلَفَ الصَّالِحَ ، فَرَأَى مُبْتَدِعًا يَدْعُو إِلَى بِدْعَتِهِ ، وَرَأَى صَاحِبَ دُنْيَا يَدْعُو إِلَى دُنْيَاهُ ، فَعَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَجَعَلَ قَلْبَهُ يَحِنُّ إِلَى ذَلِكَ السَّلَفِ الصَّالِحِ ، يَسْأَلُ عَنْ سُبُلِهِمْ ، وَيَقْتَصُّ آثَارَهُمْ ، وَيَتَّبِعُ سَبِيلَهُمْ ، لَيُعَوَّضُ أَجْرًا عَظِيمًا ، وَكَذَلِكَ فَكُونُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَعَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=17188مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ; قَالَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا أُنْشِرَ فِيكُمْ مِنَ السَّلَفِ ، مَا عَرَفَ غَيْرَ هَذِهِ الْقِبْلَةِ .
وَعَنْ
سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ .
إِلَى مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنَ الْآثَارِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْمُحْدَثَاتِ تَدْخُلُ فِي الْمَشْرُوعَاتِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ قَبْلَ زَمَانِنَا ، وَإِنَّمَا تَتَكَاثَرُ عَلَى تَوَالِي الدُّهُورِ إِلَى الْآنَ .
فَتَرَدَّدَ النَّظَرُ بَيْنَ أَنْ أَتَّبِعَ السُّنَّةَ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ مَا اعْتَادَ النَّاسُ ; فَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ نَحْوٍ مِمَّا حَصَلَ لِمُخَالِفِي الْعَوَائِدِ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا ادَّعَى أَهْلُهَا أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ لَا سِوَاهَا ، إِلَّا أَنَّ فِي ذَلِكَ الْعِبْءِ الثَّقِيلِ مَا فِيهِ مِنَ الْأَجْرِ الْجَزِيلِ ، وَبَيْنَ أَنْ أَتْبَعَهُمْ عَلَى شَرْطِ مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ ، فَأَدْخُلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ الضُّلَّالِ عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ ، إِلَّا أَنِّي أُوَافِقُ
[ ص: 35 ] الْمُعْتَادَ ، وَأُعَدُّ مِنَ الْمُؤَالِفِينَ لَا مِنَ الْمُخَالِفِينَ ؟ !
فَرَأَيْتُ أَنَّ الْهَلَاكَ فِي اتِّبَاعِ السُّنَّةِ هُوَ النَّجَاةُ ، وَأَنَّ النَّاسَ لَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، فَأَخَذْتُ فِي ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ التَّدْرِيجِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، فَقَامَتْ عَلَيَّ الْقِيَامَةُ ، وَتَوَاتَرَتْ عَلَيَّ الْمَلَامَةُ ، وَفَوَّقَ إِلَيَّ الْعِتَابُ سِهَامَهُ ، وَنُسِبْتُ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ ، وَأُنْزِلْتُ مَنْزِلَةَ أَهْلِ الْغَبَاوَةِ وَالْجَهَالَةِ .
وَإِنِّي لَوِ الْتَمَسْتُ لِتِلْكَ الْمُحْدَثَاتِ مَخْرَجًا; لَوَجَدْتُ ؛ غَيْرَ أَنَّ ضِيقَ الْعَطَنِ وَالْبُعْدَ عَنْ أَهْلِ الْفِطَنِ رَقَى بِي مُرْتَقًى صَعْبًا وَضَيَّقَ عَلَيَّ مَجَالًا رَحْبًا ، وَهُوَ كَلَامٌ يُشِيرُ بِظَاهِرِهِ إِلَى أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهَاتِ ، لِمُوَافَقَاتِ الْعَادَاتِ ، أَوْلَى مِنِ اتِّبَاعِ الْوَاضِحَاتِ ، وَإِنْ خَالَفَتِ السَّلَفَ الْأَوَّلَ .
وَرُبَّمَا أَلَمُّوا فِي تَقْبِيحِ مَا وَجَّهْتُ إِلَيْهِ وِجْهَتِي بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ ، أَوْ خَرَّجُوا بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الْخَارِجَةِ عَنِ السُّنَّةِ شَهَادَةً سَتُكْتَبُ وَيُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
فَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَنْفَعُ وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ كَمَا يُعْزَى إِلَى بَعْضِ النَّاسِ ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمِ الدُّعَاءَ بِهَيْئَةِ الِاجْتِمَاعِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَاةِ حَالَةَ الْإِمَامَةِ . وَسَيَأْتِي مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ وَلِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَالْعُلَمَاءِ .
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى الرَّفْضِ وَبُغْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بِسَبَبِ أَنِّي لَمْ أَلْتَزِمْ ذِكْرَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْهُمْ فِي الْخُطْبَةِ عَلَى الْخُصُوصِ ، إِذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ السَّلَفِ فِي خُطَبِهِمْ ، وَلَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ فِي أَجْزَاءِ الْخُطَبِ :
[ ص: 36 ] وَقَدْ سُئِلَ (
أَصْبَغُ ) عَنْ دُعَاءِ الْخَطِيبِ لِلْخُلَفَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ؟ فَقَالَ : هُوَ بِدْعَةٌ وَلَا يَنْبَغِي الْعَمَلُ بِهِ ، وَأَحْسَنُهُ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً .
قِيلَ لَهُ : فَدُعَاؤُهُ لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ ؟ قَالَ : مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ ، وَأَمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَصْمُدُ لَهُ فِي خُطْبَتِهِ دَائِمًا ، فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ .
وَنَصَّ أَيْضًا
عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْخُلَفَاءِ فِي الْخُطْبَةِ بِدْعَةٌ غَيْرُ مَحْبُوبَةٍ .
وَتَارَةً أُضِيفَ إِلَيَّ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْقِيَامِ عَلَى الْأَئِمَّةِ ، وَمَا أَضَافُوهُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ ذِكْرِي لَهُمْ فِي الْخُطْبَةِ ، وَذِكْرُهُمْ فِيهِ مُحْدَثٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَ .
وَتَارَةً حُمِلَ عَلَيَّ الْتِزَامُ الْحَرَجِ وَالتَّنَطُّعُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنِّي الْتَزَمْتُ فِي التَّكْلِيفِ وَالْفُتْيَا الْحَمْلَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ لَا أَتَعَدَّاهُ ، وَهُمْ يَتَعَدَّوْنَهُ وَيُفْتُونَ بِمَا يُسَهِّلُ عَلَى السَّائِلِ وَيُوَافِقُ هَوَاهُ ، وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فِي الْمَذْهَبِ الْمُلْتَزَمِ أَوْ فِي غَيْرِهِ ، وَأَئِمَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ، وَلِلْمَسْأَلَةِ بَسْطٌ فِي كِتَابِ ( الْمُوَافَقَاتُ ) .
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنِّي عَادَيْتُ بَعْضَ الْفُقَرَاءِ الْمُبْتَدِعِينَ الْمُخَالِفِينَ لِلسُّنَّةِ الْمُنْتَصِبِينَ بِزَعْمِهِمْ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ ، وَتَكَلَّمْتُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى
[ ص: 37 ] الصُّوفِيَّةِ وَلَمْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ .
وَتَارَةً نُسِبْتُ إِلَى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ الَّتِي أُمِرَ بِاتِّبَاعِهَا وَهِيَ النَّاجِيَةُ مَا عَلَيْهِ الْعُمُومُ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْجَمَاعَةَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَالتَّابِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ . وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بِحَوْلِ اللَّهِ .
وَكَذَبُوا عَلَيَّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، أَوْ وَهِمُوا ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ .
فَكُنْتُ عَلَى حَالَةٍ تُشْبِهُ حَالَةَ الْإِمَامِ الشَّهِيرِ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَطَّةَ الْحَافِظِ مَعَ أَهْلِ زَمَانِهِ إِذْ حَكَى عَنْ نَفْسِهِ فَقَالَ :
" عَجِبْتُ مِنْ حَالِي فِي سَفَرِي وَحَضَرِي مَعَ الْأَقْرَبِينَ مِنِّي وَالْأَبْعَدِينَ ، وَالْعَارِفِينَ وَالْمُنْكِرِينَ ، فَإِنِّي وَجَدْتُ
بِمَكَّةَ وَخُرَاسَانَ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَمَاكِنِ أَكْثَرَ مَنْ لَقِيتُ بِهَا مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا ، دَعَانِي إِلَى مُتَابَعَتِهِ عَلَى مَا يَقُولُهُ ، وَتَصْدِيقِ قَوْلِهِ ، وَالشَّهَادَةِ لَهُ ، فَإِنْ كُنْتُ صَدَّقْتُ فِيمَا يَقُولُ وَأَجَزْتُ لَهُ ذَلِكَ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ هَذَا الزَّمَانِ; سَمَّانِي مُوَافِقًا ، وَإِنْ وَقَفْتُ فِي حَرْفٍ مِنْ قَوْلِهِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ سَمَّانِي مُخَالِفًا ، وَإِنْ ذَكَرْتُ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَارِدٌ ، سَمَّانِي خَارِجِيًّا ، وَإِنْ قَرَأْتُ عَلَيْهِ حَدِيثًا فِي التَّوْحِيدِ ، سَمَّانِي مُشَبِّهًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الرُّؤْيَةِ; سَمَّانِي سَالِمِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْإِيمَانِ سَمَّانِي مُرْجِئًا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَعْمَالِ ، سَمَّانِي قَدَرِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْرِفَةِ سَمَّانِي كَرَامِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، سَمَّانِي نَاصِبِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي فَضَائِلِ أَهْلِ الْبَيْتِ سَمَّانِي رَافِضِيًّا ، وَإِنْ سَكَتُّ عَنْ
[ ص: 38 ] تَفْسِيرِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ فَلَمْ أُجِبْ فِيهِمَا إِلَّا بِهِمَا ، سَمَّانِي ظَاهِرِيًّا ، وَإِنْ أَجَبْتُ بِغَيْرِهِمَا ، سَمَّانِي بَاطِنِيًّا ، وَإِنْ أَجَبْتُ بِتَأْوِيلٍ ، سَمَّانِي أَشْعَرِيًّا ، وَإِنْ جَحَدْتُهُمَا ، سَمَّانِي مُعْتَزِلِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي السُّنَنِ مِثْلَ الْقِرَاءَةِ ، سَمَّانِي شَفْعَوِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُنُوتِ سَمَّانِي حَنَفِيًّا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقُرْآنِ ، سَمَّانِي حَنْبَلِيًّا ، وَإِنْ ذَكَرْتُ رُجْحَانَ مَا ذَهَبَ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ إِذْ لَيْسَ فِي الْحُكْمِ وَالْحَدِيثِ مُحَابَاةٌ قَالُوا : طَعَنَ فِي تَزْكِيَتِهِمْ .
ثُمَّ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَنِي فِيمَا يَقْرَءُونَ عَلَيَّ مِنْ أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَشْتَهُونَ مِنْ هَذِهِ الْأَسَامِي ، وَمَهْمَا وَافَقْتُ بَعْضَهُمْ; عَادَانِي غَيْرُهُ ، وَإِنْ دَاهَنْتُ جَمَاعَتَهُمْ ، أَسْخَطْتُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَلَنْ يُغْنُوا عَنِّي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا . وَإِنِّي مُسْتَمْسِكٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
هَذَا تَمَامُ الْحِكَايَةِ ، فَكَأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِ الْجَمِيعِ ، فَقَلَّمَا تَجِدُ عَالِمًا مَشْهُورًا أَوْ فَاضِلًا مَذْكُورًا ، إِلَّا وَقَدْ نُبِذَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ بَعْضِهَا ، لِأَنَّ الْهَوَى قَدْ يُدَاخِلُ الْمُخَالِفَ ، بَلْ سَبَبُ الْخُرُوجِ عَنِ السُّنَّةِ الْجَهْلُ بِهَا وَالْهَوَى الْمُتَّبَعُ الْغَالِبُ عَلَى أَهْلِ الْخِلَافِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، حُمِلَ عَلَى صَاحِبِ السُّنَّةِ ، أَنَّهُ غَيْرُ صَاحِبِهَا ، وَرُجِعَ بِالتَّشْنِيعِ عَلَيْهِ وَالتَّقْبِيحِ لِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ،
[ ص: 39 ] حَتَّى يُنْسَبَ هَذِهِ الْمَنَاسِبَ .
وَقَدْ نُقِلَ عَنْ سَيِّدِ الْعُبَّادِ بَعْدَ الصَّحَابَةِ (
nindex.php?page=showalam&ids=12338أُوَيْسٍ ) الْقَرَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَمْ يَدَعَا لِلْمُؤْمِنِ صَدِيقًا : نَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، فَيَشْتُمُونَ أَعْرَاضَنَا ، وَيَجِدُونَ فِي ذَلِكَ أَعْوَانًا مِنَ الْفَاسِقِينَ ، حَتَّى وَاللَّهِ لَقَدْ رَمَوْنِي بِالْعَظَائِمِ ، وَايْمُ اللَّهِ ، لَا أَدَعُ أَنْ أَقُومَ فِيهِمْ بِحَقِّهِ .
فَمِنْ هَذَا الْبَابِ يَرْجِعُ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ ، لِأَنَّ الْمُؤَالِفَ فِيهِ عَلَى وَصْفِهِ الْأَوَّلِ قَلِيلٌ ، فَصَارَ الْمُخَالِفُ هُوَ الْكَثِيرَ ، فَانْدَرَسَتْ رُسُومُ السُّنَّةِ حَتَّى مَدَّتِ الْبِدَعُ أَعْنَاقَهَا ، فَأُشْكِلَ مَرْمَاهَا عَلَى الْجُمْهُورِ ، فَظَهَرَ مِصْدَاقُ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .