الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم  ، وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه وغيره من الصحابة [1] يصلون [2] خلف نجدة الحروري ، وكانوا أيضا يحدثونهم ويفتونهم ويخاطبونهم ، كما يخاطب المسلم المسلم ، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجدة الحروري لما أرسل إليه يسأله عن مسائل ، وحديثه في البخاري [3] . وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة [4] ، وكان نافع يناظره في أشياء بالقرآن ، كما يتناظر المسلمان .

                  وما زالت سيرة المسلمين على هذا ، ما جعلوهم مرتدين كالذين [ ص: 248 ] قاتلهم الصديق رضي الله عنه . هذا مع أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم [5] في الأحاديث الصحيحة ، وما روي من أنهم " شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتيل [6] من قتلوه " في الحديث الذي رواه أبو أمامة ، رواه الترمذي وغيره [7] . أي أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم : لا اليهود ولا النصارى ; فإنهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم ، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم ، مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة .

                  ومع هذا فالصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ، ولا جعلوهم مرتدين ، ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل ، بل اتقوا الله فيهم ، وساروا فيهم السيرة العادلة . وهكذا سائر فرق أهل البدع والأهواء من الشيعة والمعتزلة ; وغيرهم فمن كفر الثنتين والسبعين فرقة [ ص: 249 ] كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس في الصحيحين ، وقد ضعفه ابن حزم وغيره لكن حسنه غيره أو صححه ، كما صححه الحاكم وغيره ، وقد رواه أهل السنن ، وروي من طرق [8] .

                  وليس قوله : " ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة " بأعظم من قوله تعالى : إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا [ سورة النساء : 10 ] وقوله : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا [ سورة النساء : 30 ] ، وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار .

                  [ ص: 250 ] ومع هذا فلا نشهد لمعين بالنار  لإمكان أنه تاب ، أو كانت له حسنات محت سيئاته ، أو كفر الله عنه بمصائب أو غير ذلك كما تقدم ، بل المؤمن بالله ورسوله باطنا وظاهرا ، الذي قصد اتباع الحق وما جاء به الرسول ، إذا أخطأ ولم يعرف الحق كان أولى أن يعذره الله في الآخرة من المتعمد العالم بالذنب ; فإن هذا عاص مستحق للعذاب بلا ريب ، وأما ذلك فليس متعمدا للذنب بل هو مخطئ ، والله قد تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان .

                  والعقوبة في الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين ، وإن كان في الآخرة خيرا ممن لم يعاقب ، كما يعاقب المسلم المتعدي للحدود ، ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى . والمسلم في الآخرة خير منهم .

                  وأيضا فصاحب البدعة يبقى صاحب هوى يعمل لهواه لا ديانة ، ويصدر عن الحق الذي يخالفه هواه ، فهذا يعاقبه الله على هواه ، ومثل هذا يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة . ومن فسق من السلف الخوارج ونحوهم كما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال فيهم قوله تعالى : وما يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون [ سورة البقرة : 26 - 27 ] فقد يكون هذا قصده ، لا سيما إذا تفرق الناس ، فكان ممن يطلب [9] الرياسة له ولأصحابه .

                  وإذا كان المسلم الذي يقاتل الكفار قد يقاتلهم شجاعة وحمية ورياء ، وذلك ليس في سبيل الله ، فكيف بأهل البدع الذين يخاصمون ويقاتلون [ ص: 251 ] عليها ؟  فإنهم يفعلون ذلك شجاعة وحمية ، وربما يعاقبون لما اتبعوا أهواءهم بغير هدى من الله ، لا لمجرد [10] الخطأ الذي اجتهدوا فيه .

                  ولهذا قال الشافعي : " لأن أتكلم في علم يقال لي فيه : أخطأت ، أحب إلي من أن أتكلم في علم يقال لي فيه : كفرت " . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون . وسبب ذلك أن أحدهم قد يظن ما ليس بكفر كفرا ، [ وقد يكون كفرا ] [11] لأنه تبين له أنه تكذيب للرسول وسب للخالق ، والآخر لم يتبين له ذلك ، فلا يلزم إذا كان هذا العالم بحاله يكفر إذا قاله ، أن يكفر من لم يعلم بحاله .

                  والناس لهم فيما يجعلونه [12] كفرا طرق متعددة [13] ; فمنهم من يقول : الكفر تكذيب ما علم بالاضطرار من دين الرسول ، ثم الناس متفاوتون في العلم الضروري بذلك .

                  ومنهم من يقول : الكفر هو الجهل بالله تعالى ، ثم قد يجعل الجهل بالصفة كالجهل بالموصوف وقد لا يجعلها ، وهم مختلفون في الصفات نفيا وإثباتا .

                  ومنهم من لا يحده بحد ، بل كل ما تبين أنه تكذيب لما جاء به الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر جعله كفرا ، إلى طرق أخر .

                  ولا ريب أن الكفر متعلق بالرسالة ، فتكذيب الرسول كفر ، وبغضه [ ص: 252 ] وسبه وعداوته مع العلم بصدقه في الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف ، إلا الجهم ومن وافقه كالصالحي والأشعري وغيرهم ; فإنهم قالوا : هذا كفر في الظاهر ، وأما في الباطن فلا يكون كفرا إلا إذا استلزم الجهل ، بحيث [14] لا يبقى في القلب شيء من التصديق بالرب ، وهذا بناء على أن الإيمان في القلب لا يتفاضل ، ولا يكون في القلب بعض من الإيمان . وهو خلاف النصوص الصريحة ، وخلاف الواقع ، ولبسط هذا موضع آخر .

                  والمقصود هنا أن كل من تاب من أهل البدع تاب الله عليه  ، وإذا كان الذنب متعلقا بالله ورسوله فهو حق محض لله ، فيجب أن يكون الإنسان في هذا الباب [15] قاصدا لوجه الله ، متبعا لرسوله ، ليكون عمله خالصا صوابا .

                  قال تعالى : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ سورة البقرة : 111 - 112 ] .

                  وقال تعالى : ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا [ سورة النساء : 125 ] قال المفسرون وأهل اللغة : معنى الآية : أخلص دينه وعمله [16] لله وهو محسن في عمله .

                  [ ص: 253 ] وقال الفراء في قوله : فقل أسلمت وجهي لله [ سورة آل عمران : 20 ] أخلصت عملي . وقال الزجاج : قصدت بعبادتي إلى الله . وهو كما قالوا ، كما قد ذكر توجيهه في موضع آخر .

                  وهذا المعنى يدور عليه القرآن ; فإن الله تعالى أمر أن لا يعبد إلا إياه ، وعبادته فعل ما أمر ، وترك ما حظر . والأول هو إخلاص الدين والعمل لله . والثاني هو الإحسان ، وهو العمل الصالح . ولهذا كان عمر يقول في دعائه : " اللهم اجعل عملي كله صالحا ، واجعله لوجهك خالصا ، ولا تجعل لأحد فيه شيئا " .

                  وهذا هو الخالص الصواب ، كما قال الفضيل بن عياض في قوله : ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ سورة هود : 7 ] . قال أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل ، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل : حتى يكون خالصا صوابا . والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية