الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فمسألة وجوب الزكاة في عين المال، أو في ذمة صاحبه، أو فيهما معًا، مسألة خلاف، كما أشرت إلى ذلك في سؤالك، وقد تكلم الفقهاء عليها، وعرضوا لبعض الإشكالات المترتبة على كل قول، وثمرة الخلاف في ذلك، قال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في الشرح الممتع على زاد المستقنع: قوله: «وتجب الزكاة في عين المال، ولها تعلق بالذمة» اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل الزكاة واجبة في الذمة، أو واجبة في عين المال؟
فقال بعض العلماء: إنها واجبة في الذمة، ولا علاقة لها بالمال إطلاقًا، بدليل أن المال لو تلف بعد وجوب الزكاة؛ لوجب على المرء أن يؤدي الزكاة، وقال بعض العلماء: بل تجب الزكاة في عين المال؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لمعاذ حين بعثه لليمن: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم»، فالزكاة واجبة في عين المال.
وكلا القولين يرد عليه إشكال؛ لأننا إذا قلنا: إنها تجب في عين المال، صار تعلقها بعين المال كتعلق الرهن بالعين المرهونة، فلا يجوز لصاحب المال إذا وجبت عليه الزكاة أن يتصرف فيه، وهذا خلاف الواقع، حيث إن من وجبت عليه الزكاة، له أن يتصرف في ماله، ولو بعد وجوب الزكاة فيه، لكن يضمن الزكاة.
وإذا قلنا: بأنها واجبة في الذمة، فإن الزكاة تكون واجبة حتى لو تلف المال بعد وجوبها من غير تعد، ولا تفريط، وهذا فيه نظر أيضًا.
فالقول الذي مشى عليه المؤلف قول جامع بين المعنيين، وهو أنها تجب في عين المال، ولها تعلق بالذمة، فالإنسان في ذمته مطالب بها، وهي واجبة في المال، ولولا المال لم تجب الزكاة، فهي واجبة في عين المال. انتهى.
وما استشكلته فهو وارد نظريًّا على القول بأن الزكاة متعلقة بعين المال، لكننا لم نجد من صرح بذلك تقريرًا له، أو إيرادًا واعتراضًا، والذي يظهر مما اطلعنا عليه من كلام أهل العلم، هو أن نماء المال الذي وجبت فيه الزكاة ولم تؤد منه حتى نما وربح، أنه كله لرب المال، وعليه أداء الزكاة فقط من نفس المال، أو من غيره؛ لترتبها في ذمته بتأخيرها، قال ابن رشد في البيان والتحصيل من كتب المالكية: ووجه قول أشهب، وسحنون، أن الزكاة، وإن كانت متعينة في المال، فقد ترتبت في الذمة بتأخيرها عن وقتها، فأشبهت سائر الديون. اهـ.
وفي الجامع لمسائل المدونة من كتب المالكية: قال ابن سحنون عن أبيه: وإن قام المال بيده ثلاث سنين، فكان في أول سنة مائة، وفي الثانية مائتين، وفي الثالثة مائة، زكى عما كان عنده في كل سنة، إلا ما نقصت الزكاة، ولو رجع في العالم الثالث مائة، لم يزك إلا عن مائة، لكل سنة، إلا ما حطت الزكاة، ولا يضمن ما هلك من الربح. اهـ.
وقال ابن رجب في القواعد: ... التصرف في النصاب، أو بعضه بعد الحول، ببيع أو غيره، والمذهب صحته، ونص عليه أحمد. قال الأصحاب: وسواء قلنا الزكاة في العين، أو في الذمة ...اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: وإذا قلنا بوجوب الزكاة في العين، فليس هو بمعنى استحقاق جزء منه؛ ولهذا لا يمنع التصرف فيه. اهـ.
ولم نقف على من فرع على استحقاق الزكاة في العين، أن يكون للفقراء بعض الربح، وإنما وجدنا من صرح بأن النماء كله لرب المال، قال المرداوي الحنبلي في الإنصاف من كتب الحنابلة: إذا قُلْنا: تجِبُ الزَّكاةُ في العَيْنِ، فقال في «الرِّعايتَيْن»، و«الحاوي الصَّغِيرِ»: تتَعَلَّقُ به كتَعلُّقِ أرْشِ جِنايَةِ الرَّقيقِ برَقَبَتِه، فلِرَبِّه إخْراجُ زكاتِه مِن غيرِه، والتَّصَرُّفُ فيه ببَيْع وغيرِه، بلا إذْنِ الساعي، وكلُّ النَّماءِ له. انتهى.
وجاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي: وإنما جاز الأداء من مال آخر؛ لبناء الزكاة على الرفق، ومن ثم؛ لم يشارك المستحق المالك فيما يحدث منها بعد الوجوب. اهـ.
وعلى هذا؛ فالخلاصة: أنه سواء قلنا بأن الزكاة واجبة في الذمة، أو في عين المال، أو لها تعلق بالعين وتعلق بالذمة، وهو ما ذكره الحجاوي في زاد المستقنع، فالنماء ليس شيء منه مستحقًّا لأهل الزكاة، وإنما تجب الزكاة في النماء تبعًا لأصله.
ويمكن الاستدلال لذلك بما ذكره البخاري في صحيحه قال: باب من باع ثماره، أو نخله، أو أرضه، أو زرعه، وقد وجب فيه العشر أو الصدقة، فأدَّى الزكاة من غيره، أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تبيعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها))، فلم يحظر البيع بعد الصلاح على أحدٍ، ولم يخص من وجب عليه الزكاة ممن لم تجب.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ظاهر سياق هذه الترجمة، أن المصنف يرى جواز بيع الثمرة بعد بُدُوِّ الصلاح، ولو وجبت فيها الزكاة بالخرص مثلًا؛ لعموم قوله: (حتى يبدو صلاحها)، وهو أحد قولي العلماء... اهـ.
والله أعلم.