السؤال
ما حكم إذا نوى المؤمن الإفراد بالعمرة ولما يصل مكة وبعدها يتحلل من العمرة ثم يقوم هذا الشخص بعد أداء العمرة والتحلل منها يذهب إلى منطقة التنعيم ومن جامع عائشة أم المؤمنين وكلنا يعلم أن عائشة طلبت من رسول الله أداء العمرة بعد أن تم الطهر عندها وجعل ميقاتها من التنعيم فهل هذه الخصوصية يمكن أن يعمل بها الرجال والنساء أم أنها بدعة علما أن هناك من يأتي إلى الديار المقدسة ويعمل عمرته أولا ثم يعمل عشرين عمرة ويهديها للعوائل والأصدقاء فهل يجوز ذلك أجيبونا؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد كثر الجدل وانتشر الخلاف في حكم الخروجِ من مكة للإتيانِ بعمرةٍ من التنعيم، وسببُ الخلاف اختلافُ فهم العلماء لحديثِ عائشة، فذهبَ فريقٌ من العلماء إلى أن هذا الحكم خاصٌ بأم المؤمنين فإن النبي صلي الله عليه وسلم أو أي أحد ممن حج معه لم يأتوا بهذه العمرة، قالوا: وإنما أذن النبي صلى الله عليه وسلم لها تطييباً لقلبها، وأبى ذلك جماهيرُ العلماء فرخصوا في خروجِ المكي إلى التنعيم ورأوا أن حديثَ عائشةَ هذا عامٌ في حقِ كل أحد.
قال النووي: واحتج الشافعي والأصحاب وابن المنذر وخلائق على جواز تكرار العمرة : بما ثبت في الحديث الصحيح أن عائشة رضي الله عنها أحرمت بعمرة عام حجة الوداع، فحاضت، فأمرها النبي صلي الله عليه وسلم أن تحرم بحج ففعلت، وصارت قارنة ووقفت المواقف، فلما طهرت طافت وسعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: قد حللت من حجك وعمرتك، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعمرها عمرة أخرى، فأذن لها فاعتمرت من التنعيم عمرة أخرى. فدل هذا على جواز تكرار العمرة بعد العمرة مطلقاً من غير تحديد للزمن ، وقال الشافعي : من قال لا يعتمر في السنة إلاّ مرة واحدة مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعني حديث عائشة رضي الله عنها. انتهى.
واستدلوا كذلك بأن العمرة فعلُ خير، وقد وردت الأحاديثُ الكثيرة بالترغيبِ فيها والحثِ عليها.
قال أبو عمر بن عبد البر: لا أعلم لمن كره العمرة في السنة مرارا حجة من كتاب ولا سنة يجب التسليم لمثلها، والعمرة فعل خير وقد قال الله عز : وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون. فواجب استعمال عموم ذلك والندب إليه حتى يمنع منه ما يجب التسليم به.انتهى.
قال اللخمي: لا أرى أن يمنع أحد من أن يتقرب إلى الله بشيء من الطاعات ولا من الازدياد من الخير في موضع لم يأت بالمنع منه خاص. انتهى.
وأجابوا عن دعوى الفريق الأول من أن ذلك خاصٌ بعائشة بأن الخصائص لا تثبت إلا بالدليل، ولو كان ذلك يختصُ بها لبين ذلك النبي صلي الله عليه وسلم؛ كما بين لأبي بردة اختصاصه بالتضحية بجذعة المعز، بل قد كان أمر عائشة كله خير وبركةً للأمة كما قال لها أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله للمسلمين ولك فيه فرجا. رواه أبو داود وصححه الألباني.
فلا يبعدُ أن يكون هذا من بركاتها، والقولُ بأن السلف لم ينقل عنهم العمرةُ من التنعيم فيه نظر، فقد صح ذلك عن جماعةٍ كثيرةٍ منهم، فقد روى مالكٌ في الموطأ: عن هشام بن عروة عن أبيه أنه رأى عبد الله بن الزبير أحرم بعمرة من التنعيم ، قال : ثم رأيته يسعى حول البيت الأشواط الثلاثة. انتهى.
وفي مصنف ابن أبي شيبة: أن رجلاً سأل أم الدرداء عن العمرةِ بعد الحج فأمرته بها.
وتعقب الحافظُ ابن حجر قول ابن القيم رحمه الله بأن العمرة من الحل لم تثبت عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحدٍ من أصحابه بأن عائشة رضي الله عنها فعلته بأمره فدل على مشروعيته، والقولُ بأنه صلى الله عليه وسلم أمرها بهذه العمرة تطييباً لقلبها يُجاب عنه بأنه صلى الله عليه وسلم ينزه عن أن يأمر بباطلٍ أو يقر على منكر، وهؤلاء المسلمون وأكثرهم من أهل الآفاق وكثيرٌ منهم لا يطمع أن يأتي مكة مرةً أخرى، هؤلاء أيضاً محتاجون إلى تطييب قلوبهم.
والخلاصة أن العمرةَ من الحل جائزةٌ لا كراهةَ فيها، نعم قد يُقال إن الأولى أن يُنشئ لكلِ عمرةٍ سفرا لفعله صلى الله عليه وسلم فإنه اعتمر أربع عمر كل عُمرةٍ في سفرة، وأما القول بأن العمرة بدعة فليس بظاهر، وأما إهداء ثواب العمرة للموتى فجائزٌ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص: إنه لو كان أبوك أسلم فصمت عنه وتصدقت نفعه ذلك. رواه أحمد وصححه الألباني، ولا تجزئُ العمرة عن الحي على سبيل النيابة عنه إلا إن كان معضوبا لا يستطيع العمرة بنفسه. وتراجع الفتاوى ذات الأرقام التالية: 32008، 35839، 110335.
والله أعلم.