فقد قال الشافعي : " ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة والمروءة . حتى لا يخلطهما بمعصية ، ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما بشيء من الطاعة والمروءة " .
وهذا صحيح لأن في غرائز أنفسهم دواعي الطاعات ودواعي المعاصي فلم يتمحض وجود أحدهما مع اجتماع سببهما وقد قال الشاعر :
من لك بالمحض وليس محض يحيق بعض ويطيب بعض
[ ص: 155 ] ولأن وقد قال الله تعالى : أفضل الناس الأنبياء وعصى آدم ربه فغوى [ طه : 121 ] .
وقال تعالى وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه [ ص : 24 ] . وقال : ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه [ يوسف : 24 ] . وقال تعالى في يونس : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين [ الأنبياء : 87 ] .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما منا معاشر الأنبياء إلا من عصى الله أو هم بمعصية إلا أخي يحيى بن زكريا " .
وقيل : إنه اختبر يحيى في كوز ماء رآه مملوءا وفرغ وهو لا يعلم .
وقيل له : ما في الكوز ، فقال : كان فيه ماء . ولم يقل فيه ماء فيكون كذبا فتحفظ حتى سلم .
ولأن أعصى خلق الله إبليس ، وقد كانت منه طاعة في قوله تعالى : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ ص : 82 ، 83 ] .
وإذا لم يسلم أحد من الطاعة والمعصية ، لم يجز أن تكون العدالة مقصورة على خلوص الطاعات . ولا الفسق مقصورا على خلوص المعاصي . لامتناع خلوص كل واحد منهما . ولا اعتبار بالممتنع فوجب أن يعتبر الأغلب من أحوال الإنسان .
فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة . حكم بعدالته وقبول شهادته ، وإن عصى ببعض الصغائر ، وإن كان الأغلب عليه المعصية وترك المروءة ، حكم بفسقه ورد شهادته وإن أطاع في بعض أحواله .
قال الله تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون [ المؤمنون : 102 ، 103 ] .
وقال الله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما [ البقرة : 92 ] .
فغلب حكم الأغلب كما غلب في الإباحة والحظر حكم الأغلب وفي استعمال الماء إذا اختلط بمائع .
وفي نكاح النساء إذا اختلطت بأخت إن كانت في عدد محصور ، حرمن عليه حتى تتعين له من ليست بأخت فتحل ، وإن كانت في جم غفير حللن له حتى تتعين له من هي أخت فتحرم .
[ ص: 156 ] فوجب أن يكون حكم الأغلب أصلا معتبرا في العدالة والفسق .