فصل : وأما الصنائع فضربان : مسترذل وغير مسترذل .
فأما كالزراعة والصناعة ، فغير قادح في العدالة ، لأنه مما لا يستغني الناس عن الاكتساب بصنائعهم ومتاجرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " غير المسترذل إن من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة ويكفره عرق الجبين في طلب الحرفة " .
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله " .
فإن قيل : فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " . أكذب الناس الصباغون والصواغون
قيل : هذا موقوف على أبي هريرة وليس بمسند ، لأنه سمع قوما يرجفون بشيء فقال : كذبة قالها الصباغون والصواغون .
وإن ثبت مسندا فقد اختلف أهل العلم في تأويله .
فقال بعضهم : لأنهم يعدون ويخلفون . وإخلاف الوعد كذب .
وقال آخرون : لأن الصباغين يسمون الألوان بما أشبهها فيقولون : هذا لون الشقائق ولون الشفق ولون النارنج .
والصواغون يسمون الأشكال بما يماثلها ، فيقولون : هذا زرع وهذا شجر ، وتسمية الشيء بغير اسمه كذب .
وقال آخرون : يريدون بالصباغين الذين يصبغون الكلام فيغيرون الصدق [ ص: 154 ] بالكذب ، لأن الصبغ تغيير اللون بغيره . ويريد بالصواغين الذين يصوغون الكلام . ومنهم الشعراء . لأنهم يكذبون في التشبيه والتشبيب .
فإن كانوا على التأويل الأول ردت به شهادتهم ، لأن مخالفة الوعد كذب . وإن كانوا على التأويل الثاني ، لم ترد به الشهادة ، لأن مخالفة الاسم استعارة ، وإن كانوا على التأويل الثالث ، ردت الشهادة في الصباغين ولم ترد في الصواغين إذا سلموا من الكذب .
وأما المسترذل من الصنائع فضربان :
أحدهما : كالمباشرين للأنجاس من الكناسين والزبالين ، والحجامين ، أو المشاهدين للعورات كالقيم والمزين . ما كان مسترذلا في الدين
والضرب الثاني : كالنسيج والحياكة ، وما يدنس برائحته كالقصاب والسماك ، فإن لم يحافظ هؤلاء على إزالة الأنجاس من أيديهم وثيابهم في أوقات صلواتهم وقصروا في حقوق الله تعالى عليهم ، كان ذلك جرحا في عدالتهم وقدحا في ديانتهم . ما كان مسترذلا في الدنيا
وإن حافظوا على إزالة النجاسة ، والقيام بحقوق العدالة ، ففي قدح ذلك في عدالتهم ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه يقدح فيها ، لأن الرضا بها مع الاسترذال قدح .
والوجه الثاني : أنه لا يقدح في العدالة لأنه لا يجد الناس منها بدا . ولأنها مستباحة شرعا .
والوجه الثالث : أنه يقدح في العدالة منها ما استرذل في الدين . ولا يقدح فيها ما استرذل في الدنيا ، لا سيما الحياكة لكثرة الخير في أهلها .