فصل : والخصلة الثالثة : . وهي على ثلاثة أضرب : ظهور المروءة
ضرب يكون شرطا في العدالة . وضرب لا يكون شرطا فيها . وضرب مختلف فيه .
[ ص: 151 ] وأما ما يكون شرطا فيها فهو : مجانبة ما سخف من الكلام المؤذي أو المضحك وترك ما قبح من الضحك الذي يلهو به . أو يستقبح لمعرفته أو أدائه . فمجانبة ذلك من المروءة التي هي شرط في العدالة ، وارتكابها مفض إلى الفسق .
ولذلك ، وكذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة الذي ترد به الشهادة ، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى . خضاب اللحية من السفه
فأما ما لا يكون شرطا فيها فهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه ، فهذا من المروءة وليس بشرط في العدالة .
فأما المختلف فيه فضربان : عادات ، وصنائع .
فأما العادات فهو أن يقتدى فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة ، في ملبسه ومأكله وتصرفه .
فلا يتعرى عن ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم . ولا ينزع سراويله في بلد يلبس فيه أهل الصيانة سراويلهم ، ولا يكشف رأسه في بلد يغطي فيه أهل الصيانة فيه رءوسهم .
وإن كان في بلد لا يجافي أهل الصيانة ذلك فيه ، كان عفوا ، كالحجاز والبحر الذي يقتصر أهله فيه على لبس المئزر .
وأما المأكل فلا يأكل على قوارع الطرق ولا في مشيه ، ولا يخرج عن العرف في مضغه ، ولا يعاني بكثرة أكله .
وأما التصرف فلا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتجافاه أهل الصيانة . إلى نظائر هذا مما فيه بذلة وترك تصون .
وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شروط العدالة أربعة أوجه :
أحدها : أنه غير معتبر فيها لإباحته .
قد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترى فيمن يزيد ، واشترى سراويل بأربعة دراهم .
. وقال : " يا وزان زن وأرجح " . وقال الراوي : فأخذته لأحمله . فقال : " دعه فصاحب المتاع أحق بحمله "
لعائشة : ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله إذا خلا ؟ قالت : كان يخصف النعل ويرقع الدلو . وكان وقيل أبو بكر رضي الله عنه يسلك الطريق في خلافته وهو متخلل بعباءة قد ربطها بشوكة .
[ ص: 152 ] وكان عمر رضي الله عنه يلبس المرقعة . ويهنأ بعيره بيده ويقوده .
وقد اشترى علي رضي الله عنه قميصا وأتى تجارا فوضع كمه وقال : اقطع ما فضل عن الأصابع ، فقطعه بفأس فقيل له : لو كففته ؟ فقال : دعه يتسلل مع الزمان . وعمل بالأجر في حائط وأجر نفسه من يهودية ليسقي كل دلو بتمرة .
وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاز ، لا يجوز أن يكون قادحا في العدالة ، لأن المروءة مشتقة من المرء ، وهو الإنسان فصارت الإشارة بها إلى الإنسانية ، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه ، ولأن المروءة من دواعي الحياة .
والوجه الثاني : أن هذا الضرب من ، ولأن المروءة مشتقة من المرء وهو الإنسان ، فصارت الإشارة بها للإنسانية ، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه ، ولأن المروءة شرط معتبر في العدالة . وإن كان لا يفسق به ، لأن العدالة في الشهادة للفضيلة المختصة بها ، وهي تالية لفضيلة النبوة . حفظ المروءة من دواعي الحياء
قال الله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا [ النساء : 41 ] .
وقال الله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا [ البقرة : 143 ] .
وقال الله تعالى : والذين هم بشهاداتهم قائمون أولئك في جنات مكرمون [ المعارج : 33 ، 35 ] .
وما كان بهذه المنزلة من الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلا في البذلة . وليس ما ضله الصدر الأول بذلة ، لأنه لم يخرج عن عرف أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلى الآخرة .
وقد روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " " . إن مما أدرك الناس من كلام النبوة : إذا لم تستح فاصنع ما شئت
ولأن إقدامه على البذلة والعدول عن الصيانة دليل على اطراح الصيانة والتحفظ في حق نفسه فكان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره .
والوجه الثالث : أنه إن كان قد نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته وإن [ ص: 153 ] استحدثها في كبيره قدحت في عدالته ، لأنه يصير بالمنشأ مطبوعا بها وبالاستحداث مختارا لها .
والوجه الرابع : إن اختصت بالدين قدحت في عدالته كالبول قائما وفي الماء الراكد ، وكشف العورة إذا خلا ، وأن يتحدث بمساوئ الناس ، وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته . كالأكل في الطريق وكشف الرأس " بين الناس والمشي حافيا ، لأن مروءة الدين مشروعة ومروءة الدنيا مستحسنة .