قال الماوردي : وهذا مما خالف فيه أبو حنيفة فقال : كان قذفا صريحا يوجب حدا . إذا قال لها زنأت في الجبل
وقال الشافعي : زنأت في الجبل هو الترقي فيه فلا يكون قذفا إن لم يرده .
وهو قول أبي يوسف ومحمد .
وقال أبو الطيب بن أبي سلمة : إن كان قائل ذلك من أهل العربية لم يكن قذفا ، وإن كان ممن لا يعرفها كان قذفا ، فأما أبو حنيفة فاستدل على أنه قذف : بأن لفظ الزنا يقصر تارة ويمد أخرى ، فيقال : زنأت . وزنيت ، قال الشاعر :
كانت فريضة ما تقول كما كان الزنا فريضة الرجم
وإذا استوى في القذف : زنأت وزنيت ، لم تكن إضافته إلى الجبل مخرجا له من القذف ، كما لو قال له : زنيت في الجبل ، كان قذفا فلم تخرجه الإضافة إلى الجبل من أن يكون قذفا ، أما أبو الطيب بن أبي سلمة فإنه فرق بين النحوي والعامي ، فإن النحوي لوقوفه على معاني الألفاظ يفرق بين قوله : زنأت في الجبل فيعلم أنه الترقي فيه ، وبين قوله : زنيت في الجبل فيعلم أنه إتيان الفاحشة فيه ، والعامي لا يفرق بينهما ، فكان من العامي قذفا لجهله بالفرق بينهما ، ولم يكن من النحوي قذفا لعلمه بالفرق بينهما .
كما إذا قال لزوجته : أنت طالق إن دخلت الدار ، يفرق في حق النحوي بين كسر إن وفتحها ، فإن فتحها فقال : أنت طالق أن دخلت الدار كان خبرا ، والطلاق واقع ؛ لأن تقديره : أنت طالق لأنك دخلت الدار ، وإن كسرها فقال : أنت طالق إن دخلت الدار ، كانت شرطا ، لا تطلق حتى تدخل الدار ؛ لأن تقديره : أنت طالق إذا دخلت الدار .
[ ص: 109 ] والدليل على أنه لا يكون قذفا إذا لم تر أن الأحكام تعتبر بحقيقة اللفظ دون مجازه من العالم والجاهل إذا تجرد عن نية وإرادة ، كصريح الطلاق وكنايته ، وحقيقة قوله : زنأت في الجبل ، هو الصعود إليه والترقي فيه ، يقال : زنأ يزنأ وزنوا إذ صعد فيه ، وزنى يزني زنا ، إذا فجر ، يمد ويقصر ، والقصر أكثر .
والفرق بينهما في حقيقة اللسان وعرف الاستعمال مشهور ، حكي أن امرأة من العرب كانت ترقص ابنا وهي تقول :
أشبه أبا أمك أو أشبه جمل ولا تكونن كهلوف وكل
يصبح في مضجعه قد انجدل وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل
قولها : " أشبه أبا أمك " يعني أباها الذي هو جده لأمه .
وأشبه جمل هو نجيب من قومه ، ولعله أبوه ، ومعناه أشبه هذا أو هذا ، ولا تكونن كهلوف .
الهلوف : الرجل الجافي العظيم .
والوكل : الضعيف ، ومعناه : لا تكونن رجلا ثقيل الجسم مسترخيا .
يصبح في مضجعه قد انجدل ، يعني وقع على الأرض ، لأن الأرض تسمى الجدالة .
وارق إلى الخيرات : معناه ، واصعد إليها .
زنأ في الجبل : أي كصعودك فيه ومعناه أنك تعلو بصعودك إلى الخيرات كما تعلو بصعودك في الجبل . وهذا لسان من قد فطر على العربية ولم يتكلفها فكانت ألفاظه حقيقة في معانيها . فلم يجز أن يعدل بزنأ في الجبل عن حقيقته ولا أن يعلق الحكم فيه بمجازه ، ولأن زنأت في الجبل لو كان حقيقة في الصعود وحقيقة في الفاحشة لكان ما قرن به من ذكر الجبل يصرفه عن حقيقة الفجور إلى الصعود ؛ لأن القرائن تصرف حقائق الألفاظ المطلقة إلى حقائق قرائنها .
ألا تراه لو قال لها : أنت طالق من وثاق لم يقع به الطلاق ، وإن كان يقع بمجرد قوله : أنت طالق ، لأن القرينة بقوله : من وثاق قد صرفته عن حقيقته إلى مجازه ، وكذلك قوله زنأت في الجبل ، فعلى هذا لو قال لها : زنأت ولم يقل في الجبل لم يكن على الاستدلال الأول قذفا ، وكان على الاستدلال الثاني قذفا ، فصار على وجهين ، وفيما أوضحناه من هذين الاستدلالين انفصال عما تقدم الاحتجاج به إذا استوضح .