قال الماوردي : اعترض على الشافعي في هذا الفصل من ذكرنا من طريق اللغة فقالوا : قوله " فكل ماء من بحر عذب أو مالح " خطأ في اللغة ، لأن العرب تقول : ماء ملح ، ولا تقول : مالح ، وإنما هذا من كلام العامة .
والجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن الشافعي قصد به إفهام العامة ، لأنه لو قال ماء ملح لأشكل عليهم وإن كان هو الصواب .
والجواب الثاني : أن العرب تقول ماء ملح وماء مالح . قال عمر بن أبي ربيعة وهو شاعر قريش : [ ص: 40 ]
فلو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
وقال آخر :تلونت ألوانا علي كثيرة وخالط عذبا من إخايك مالح
ودليلنا قوله عليه السلام في البحر : " " . وروى البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته الشافعي ، عن إبراهيم بن محمد ، عن عبد العزيز بن عمر ، عن سعيد بن ثوبان ، عن أبي هند الفراسي ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من لم يطهره البحر فلا طهره الله " ولأن الماء قد يختلف في طعمه ولونه ، فلما لم يكن اختلاف ألوانه يمنع من تساوي الحكم في الطهارة به لم يكن اختلاف طعمه مانعا من تساوي حكمه في الطهارة . وأما قوله : " وما يستوي البحران [ فاطر : 12 ] . فإنما نعني ما ذكره من أن أحدهما عذب فرات سائغ شرابه ، والآخر ملح أجاج غير سائغ شرابه .
وأما قوله عليه السلام : " البحر نار في نار " يعني أنه كالنار لسرعة إتلافه أو أنه يصير يوم القيامة نارا لقوله تعالى : " وإذا البحار سجرت [ التكوير : 6 ] . فثبت أن لا فرق بين ، فأما الماء الذي ينعقد منه الملح فإن ابتدأ بالجمود خرج عن حد الجاري ، فلم يجز استعماله ، وإن كان ماء جاريا فهو ضربان : ضرب يصير ملحا بجوهره في الماء ، دون البرية كأعين الملح التي تنبع ماء مائعا ويصير جوهره ملحا جامدا ، فظاهر مذهب الماء المالح والعذب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه جواز استعماله ؛ لأن اسم الماء المطلق يتناوله في الحال ، وإن كان هذا الاسم يؤول عنه إذا جمد في ثاني الحال كما يجمد الماء فيصير ثلجا . قال أبو سهل الصعلوكي : لا يجوز استعماله ، لأنه جنس آخر غير الماء كالنفط والقار .
[ ص: 41 ] فصل : وأما قول الشافعي : أو بئر أو سماء . فإنما أراد ماء بئر أو ماء سماء فحذف ذكر الماء اكتفاء بفهم السامع كما قال تعالى : وما يستوي البحران [ فاطر : 2 ] . يعني ماء البحرين ، وأما ماء السماء فقد دللنا على جواز الطهارة به لقوله : وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] . وأما ماء البئر والعين والنهر فبقوله تعالى : " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض [ الزمر : 2 ] . يعني : بها . ماء البئر والعين والنهر
فصل : وأما قوله : أو برد أو ثلج . فيريد به أيضا ماء برد أو ماء ثلج ، والدليل على جواز الطهارة به ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " ولأنه كان ماء فجمد ، ثم صار ماء حين ذاب وانحل ، فأما اللهم طهرني بماء الثلج والبرد كما تطهر الثوب من الدرن ، قال إذا أخذ الثلج والبرد فدلك به أعضاء طهارته قبل ذوبانه وانحلاله الأوزاعي : يجزيه ، وإطلاق ما قاله الأوزاعي غير صحيح ، لأن إمراره الثلج على أعضائه يكون مسحا يصل إلى العضو بكل الماء ، فإن كان المستحق في العضو المسح كالرأس أجزأه بحصول المسح ، وإن كان المستحق الغسل لم يجز ؛ لأن حد الغسل أن يجري الماء بطبعه ، وهذا مسح ، وليس بغسل ، ومسح ما يجب غسله غير مجزئ ، فلو كان في إمراره على الأعضاء يذوب عليها ثم يجري ماؤه عليها ففي جوازه وجهان لأصحابنا ، أحدهما : يجزئ لحصول الغسل بجريان الماء على الأعضاء ، والثاني : لا يجزئ لأنه بعد ملاقاة الأعضاء صار جاريا .
فصل : وأما قوله " مسخن وغير مسخن فسواء ، والتطهر به جائز " فإنما قصد بالمسخن أمرين :
أحدهما : الفرق بين المسخن بالنار وبين الحامي بالشمس في أن المسخن غير مكروه والمشمس مكروه .
والثاني : الرد على طائفة منهم مجاهد ، وزعموا أن المسخن بالنار مكروه ، وهذا غير صحيح ، لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان والصحابة يعلمون ذلك منه ، ولا ينكرونه ، ولأن تسخين الماء بمنزلة التبريد يرفعان عنه تارة ويحلان فيه أخرى ، فلما لم يكن تبريده مانعا من استعماله لم يكن تسخينه الدافع لرده مانعا من استعماله ، ولعل يسخن له الماء فيستعمله مجاهدا كره منه ما اشتد حماه ، فلم يمكن استعماله ، وذلك عندنا [ ص: 42 ] مكروه ، وكذلك كما اشتد برده فلم يمكن استعماله ، فإذا تقرر هذا فالمياه كلها نوعان : نوع نزل من السماء وهو ثلاثة مياه : ماء المطر ، وماء الثلج ، وماء البرد ، ونوع ينبع من الأرض وهو أربع مياه : ماء البحر ، وماء النهر ، وماء العين ، وماء البئر ، وجميع هذه المياه طاهرة مطهرة على اختلافها في اللون والطعم والرائحة .