[ ص: 293 ] باب ما يفسد الماء
قال الشافعي رضي الله عنه : " إذا وقع في الماء نقطة خمر أو بول أو دم أو أي نجاسة كانت مما يدركها الطرف فسد الماء ، ولا تجزئ به الطهارة " .
قال الماوردي : اعلم أن ، فأما ما لا يعفى عن يسيره فمثل البول والخمر والغائط ، فتوقي يسيره وكثيره واجب لقوله تعالى : النجاسة ضربان ضرب يعفى عن يسيره ، وضرب لا يعفى عن يسيره وثيابك فطهر ، والرجز فاهجر وإذا كان كذلك فلا يخلو حال ذلك من أحد أمرين :
إما أن يكون يدركه الطرف فإن كان مما يدركها الطرف ، فقد نجس مما حصلت فيه هذه النجاسة المريبة قلت النجاسة أو كثرت وسواء وقعت على ثوب أو بدن أو حصلت في ماء قدره أقل من قلتين .
وإن كانت مما لا يدركها الطرف كذباب سقط على نجاسة فاحتمل بأرجله وأجنحته فيها ما لا يرى ولا يدركه الطرف لقلته ، ثم سقط في ماء أو على ثوب فدليل ما نقله المزني هاهنا أن الماء لا ينجس به : لأنه قال : أو أي نجاسة كانت مما يدركها الطرف فقد فسد الماء ، فدل ذلك من قوله أن ما لا يدركه الطرف لا يفسد الماء مفهوما ، وقال الشافعي في الإملاء : وإذا أدركه الطرف أو لم يدركه فعليه غسله ، وإن أصاب الثوب غائط أو بول أو خمر واستيقنه ذلك غسله كله ، وقال في موضع آخر ، وقال في موضع من الأم : وإذا أشكل عليه موضع غسل موضعه وسوى في تنجيس الثوب بما نص عليه في هذين الموضعين بين ما يدركه الطرف أو لا يدركه ، فاختلف أصحابنا وقع الذباب على بول أو خلا رقيق ثم وقع على ثوب ، لأجل اختلاف هذا النقل على أربع طرق . فيما لا يدركه الطرف
إحداهن : وهي طريقة المتقدمين منهم إن حملوا كلام الشافعي على ظاهره في الموضعين فقالوا إن الماء لا ينجس بما لا يدركه الطرف ، وهو دليله ما نقله المزني في الماء هاهنا ، وأن الثوب ينجس بما لا يدركه الطرف ، كما ينص بما لا يدركه الطرف ، وهو نص الشافعي في الثوب على ما صرح به في الإملاء وكتاب الأم ، وفرقوا بينهما بأن قالوا : إن الماء أقوى حكما في رفع النجاسة عن نفسه من الثوب لأمرين :
[ ص: 294 ] أحدهما : أنه يزيل النجاسة ، وليس كذلك الثوب .
والثاني : أنه يدفع كثير النجاسة عن نفسه إذا كثر ، وليس كذلك الثوب .
فكذلك نجس الثوب بما يدركه الطرف ، أو لا يدركه ، ولم ينجس الماء إلا بما يدركه الطرف دون ما لا يدركه .
والطريقة الثانية : وهي طريقة أبي العباس بن سريج أن الماء والثوب جميعا ينجسان بما لا يدركه الطرف ويكون دليل خطاب الشافعي في الماء متروكا بصريح نفسه في الثوب ، وتكون فائدة قوله فكانت مما يدركها الطرف - يعني - إذا كانت متيقنة ، ولم يكن مشكوكا فيه فعبر بإدراك الطرف عن اليقين .
والطريقة الثالثة : وهي طريقة أبي إسحاق المروزي أن في قولين على حسب اختلاف كلامه في الموضعين أحد القولين أن الماء والثوب معا ينجسان بما لا يدركه الطرف من النجاسة : لأنها نجاسة يمكن التحرز عنها فاقتضى أن ينجس بها ما لاقاها قياسا على ما يدركه الطرف ، وهذا صريح نصه في الثوب ، أن الماء والثوب طاهران معا لا ينجسان بما لا يدركه الطرف لأنها نجاسة يشعر التحرز منها وإن أمكن فشابهت دم البراغيث المعفو عنه ، وهذا دليل نصه في الماء . تنجيس الماء والثوب بما لا يدركه الطرف
والطريقة الرابعة : وهي طريقة أبي علي بن أبي هريرة أن الماء أغلظ حكما من الثوب فيكون الماء نجسا ، وهل ينجس الثوب أم لا ؟ على قولين : والفرق بين الماء والثوب من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الثوب لا يمكن الاحتراز من حلول هذه النجاسة فيه لبروزه ، والماء لا يمكن الاحتراز من حلولها فيه بتخمير إنائه ومن أجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد رأى إناء مخمرا . ابن عباس فقال : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " . من خمره ؟ فقيل
والثاني : أن يعفى عنه في الثوب ولا يعفي عنه في الماء فاقتضى أن يكون حكم الثوب أخف من حكم الماء . يسير دم البراغيث
والثالث : أن الذباب إذا طار عن النجاسة جفت قبل سقوطه على الثوب فصار تنجيسه [ ص: 295 ] بها شكا ، وإذا سقط في الماء انحلت فصار تنجيسه بها يقينا ، وأصح هذه الطرق هي الطريقة الأولى التي ذكرها المتقدمون من أصحابنا : لأن النص من المذهب تقتضيها والحجاج بالمعنى المذكور يوجبها .