فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح بين سبحانه في هذه الآية الشرط أو الصفة التي يجب بها كما أمر في آية : إيتاء اليتامى أموالهم وآتوا اليتامى أموالهم قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن ما تقدم من الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم كان مجملا ، وفي هذه الآية تفصيل لكيفية الإيتاء ، ووقته ، وما يعتبر فيه . وقد اختلف العلماء في ابتلاء اليتيم : كيف يكون ، فقال بعضهم : يعطى شيئا من المال ليتصرف فيه فيرى تصرفه كيف يكون ؟ فإن أحسن فيه كان راشدا ، وإلا كان سفهه ، وقال بعضهم : إن الإعطاء لا يجوز إلا بعد الابتلاء ، وإيناس الرشد ، فمن أعطاه قبل ذلك يكون مخالفا للأمر ومجازفا بالمال . والصواب : أن يحضره الولي المعاملات المالية ، ويطلعه على كيفية التصرف ، ويسأله عند كل عمل عن رأيه فيه ، فإذا رأى أجوبته سديدة ، ورأيه صالحا يعلم أنه قد رشد .
واعترض هذا أيضا بأن القول لا يغني عن الفعل شيئا ، فإن قليلا من النباهة يكفي لإحسان الجواب إن قيل له ما تقول في ثمن هذا ؟ وما أشبه ذلك ، وإننا نرى كثيرا من الذين نسميهم أذكياء ومتعلمين يتكلم أحدهم في الزراعة عن علم يقول : ينبغي كذا من السماد وكذا من السقي والعذق ، فإذا أرسل إلى الأرض ، وكلف العمل ينام معظم النهار ، ولا يعمل شيئا ، أو يعمل فيسيء العمل ، ولا يحسنه ، بل ترى من الناس من يتكلم في الأخلاق وكيفية معاملة الناس فيحسن القول كما ينبغي ولكنه يسيء في المعاملة فيكون عمله مخالفا لقوله ، فقائل هذا القول الثاني قد غفل عن القاعدة التي اتفق عليها العقلاء وهي أن بين العلم والتجربة بونا شاسعا ، فكما رأينا أناسا من المحسنين في الكلام السفهاء في الأعمال الذين إذا سألتهم عن طرق [ ص: 317 ] الاقتصاد في المعاملة ، وتدبير الثروة أجابوك أحسن جواب مبني على قواعد العلم الحديث المبني على التجارب ، وإنعام النظر ، ثم هم يسفهون في عملهم ويبذرون الأموال تبذيرا يسارعون فيه إلى الفقر ، أعرف من هؤلاء رجلا ترك له والده ثروة قدرت قيمتها بمليون جنيه ( أي بألف ألف جنيه ) فأتلفها بإسرافه ، وهو الآن يطلب إعانة من الجمعية الخيرية الإسلامية ! !
قال : فالرأي الأول أسد ، وأصوب ، وما اعترض به عليه يجاب عنه بأن الممنوع قبل العلم بالرشد هو إعطاء اليتيم ماله كله ليستقل بالتصرف فيه ، وأما إعطاؤه طائفة منه ليتصرف فيها تحت مراقبة الولي ابتلاء واختيارا له فهو غير ممنوع بل هو المأمور به في هذه الآية .
قال : و حتى ابتدائية ، أي ابتلوا اليتامى إلى ابتداء البلوغ ، وكونها ابتدائية لا ينافي كونها للغاية التي هي معناها الأصلي الذي لا يفارقها ، وإنما فرقوا بين التي تدخل على الجملة الكاملة والتي تدخل على المفرد في الإعراب ، فسموا الأولى الابتدائية وهي التي لا تجر المفرد ، وسموا الثانية الجارة وهي التي تجر المفرد . والغاية في الأولى هي مفهوم الجملة التي بعدها ، أي ابتلوهم إلى ابتداء الحد الذي يبلغون فيه سن النكاح ، فإن آنستم منهم بعد البلوغ رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، وإلا فاستمروا على الابتلاء إلى أن تأنسوا منهم الرشد . وعند أبي حنيفة يعطى ماله إذا بلغ خمسا وعشرين سنة ، وإن لم يرشد ، وجملة فإن آنستم جواب حتى إذا بلغوا .
أقول : إن بلوغ النكاح هو الوصول إلى السن التي يكون بها المرء مستعدا للزواج ، وهو بلوغ الحلم ، ففي هذه السن تطالبه بأهم سننها وهي سنة الإنتاج ، والنسل فتتوجه نفسه إلى أن تكون زوجا ، وأبا ورب بيت ورئيس عشيرة ، وذلك لا يتم له إلا بالمال ، فوجب حينئذ إيتاؤه ماله إلا إذا بلغ سفيها ، وخيف أن يضيع ماله فيعجز عما تطالبه به الفطرة ، ولو بعد حين . وفي هذه السن يكلف الأحكام الشرعية من العبادات ، والمعاملات ، وتقام عليه الحدود ويترتب عليه الجزاء الأخروي ، فالرشد حسن التصرف وإصابة الخير فيه الذي هو أثر صحة العقل وجودة الرأي ، وهو يطلق في كل مقام بحسبه ، فقد يراد به أمر الدنيا خاصة ، وقد يراد أمر الدين خاصة ; ولذلك اختلف الفقهاء في ، فقال بعضهم : يحجر عليه لأنه غير رشيد في دينه ، وقال بعضهم : لا يحجر عليه إذا كان يحسن التصرف في أمور دنياه ، لأن الرشد في هذا المقام لا يعني به إلا أمر الدنيا . وقد يقال إذا كان فسقه مما يتناول الأمور المالية كمنع الحقوق ، وإتلاف المال بالإسراف في الخمور ، والفجور وجب الحجر ، وإن كان يتعلق بأمر الدين خاصة كالفطر في رمضان مثلا فلا يجب الحجر . الحجر على الفاسق
نقل الخلاف عن مفسري السلف في تفسير الرشد ، كقول ابن جرير مجاهد : هو العقل ، وقول قتادة : هو الصلاح في العقل والدين ، وقول : هو حسن الحال [ ص: 318 ] والصلاح في الأموال . ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بمعنى الرشد في هذا الموضع : العقل وإصلاح المال ; لإجماع الجميع على أنه إذا كان كذلك لم يكن ممن يستحق الحجر عليه في ماله ، وحوز ما في يده عنه - وإن كان فاجرا في دينه - إلى آخر ما قاله في بيان هذا وإيضاحه . ابن عباس
وتنكير الرشد يدل على هذا ، فهو لبيان نوع من الرشد ينافي الإسراف في المال ، وقيل المعنى : إن آنستم منهم رشدا ما .