( ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ) هذه الجملة معطوفة على الجملة الحالية قبلها ، لأنها معللة للإنكار ومقررة للتوحيد مثلها ، وهي قاعدة من أصول دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله كما قال في سورة النجم : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( 53 : 36 - 39 ) وهي من أعظم أركان الإصلاح للبشر في أفرادهم وجماعاتهم ، لأنها هادمة لأساس الوثنية ، وهادية للبشر إلى ما تتوقف عليه سعادتهم الدنيوية والأخروية ( وهو عملهم ) وقد بينا مرارا أن أساس الوثنية طلب رفع الضر وجلب النفع بقوة من وراء الغيب ، هي عبارة عن وساطة بعض المخلوقات العظيمة - الممتازة ببعض الخواص والمزايا - بين الناس وبين ربهم ليعطيهم ما يطلبون في الدنيا من ذلك بدون كسب ولا سعي إليه من طريق الأسباب التي جرت بها سنته تعالى في خلقه ، وليحملوا عنهم أوزارهم حتى لا يعاقبهم تعالى بها ، أو يحملوا الباري تعالى على رفعها عنهم وترك عقابهم عليها ، وعلى إعطائهم نعيم الآخرة وإنقاذهم من عذابها ، أي على إبطال سنته وتبديلها في أمثالهم ، أو تحويلها عنهم إلى غيرهم ، وإن قال في كتابه : ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) ( 35 : 43 ) .
فمعنى الجملتين : ولا تكسب كل نفس عاملة مكلفة إثما إلا كان عليها جزاؤه دون غيرها ، ولا تحمل نفس فوق حملها حمل نفس أخرى ، بل كل نفس إنما تحمل وزرها وحدها ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) ( 2 : 286 ) دون ما كسب أو اكتسب غيرها . والوزر في اللغة الحمل الثقيل ، ووزره يزره - حمله يحمله . قال في تفسير الجملتين بحاصل المعنى : لا يحمل أحد ذنب غيره ، فالدين قد علمنا أن نجري على ما أودعته الفطرة من أن ابن عباس ، وأن عمل كل نفس يؤثر فيها التأثير الحسن الذي يزكيها إن كان صالحا ، أو التأثير السيئ الذي يدسيها ويفسدها إن كان فاسدا ، وأن الجزاء في الآخرة مبني على هذا التأثير فلا ينتفع أحد ولا يتضرر بعمل غيره من حيث هو عمل غيره ، وأما من كان قدوة صالحة في عمل أو معلما له ، فإنه ينتفع بعمل من أرشدهم بقوله وفعله زيادة على انتفاعه بأصل ذلك القول أو الفعل ، ومن كان قدوة سيئة في عمل أو دالا عليه ومغريا به ، فإن عليه مثل إثم من أفسدهم كذلك ، وكل من هذا وذاك يعد من عمل الهادين والمضلين ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله : " سعادة الناس وشقاءهم في الدنيا بأعمالهم " رواه من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في [ ص: 218 ] الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء مسلم من حديث جرير بن عبد الملك البجلي بلفظ " من سن سنة خير . . . ومن سن سنة شر . . . " وبهذا يعلم أنه لا تعارض بين الآية وما في معناها وبين قوله تعالى في المضلين من الناس : ( والترمذي ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ) ( 16 : 25 ) وقوله فيهم : ( وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ) ( 29 : 13 ) .
ولكن أشكل في هذا الباب حديث " الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه " رواه الشيخان وغيرهما من حديث إن عبد الله بن عمر مرفوعا من عدة طرق وهذا لفظ في أحد طرقه وليس في سائرها ، ذكر " ببعض " والمراد من النياحة كما صرح به في بعض الروايات عنه وعن أبيه ، وورد التصريح بعدم المؤاخذة بالبكاء المجرد ، وقد أوله بعضهم بأنه إنما يعذب بما نيح عليه إذا أوصى أهله به وكان ممن يرضى به ، ويحتمل أن يكون المراد بتعذيب الميت بنواح الحي عليه أن يشعر ببكائه فيؤلمه ذلك ، لا أن الله تعالى يعذبه به ويؤاخذه عليه والله أعلم . البخاري
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : ابن أبي مليكة أم عمرو بنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع بكاء فقال : ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه " فأتيت ابن عمر عائشة فذكرت لها ذلك فقالت : والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطئ ، وفي القرآن ما يكفيكم ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) اهـ . وكانت توفيت عائشة ترد كل ما يروى لها مخالفا للقرآن وتحمل رواية الصادق على خطأ السمع أو سوء الفهم - ولكن العلماء قصروا في إعلال الأحاديث بمثل هذا مع أن مخالفة الرواية الآحادية للقطعي كالقرآن من علامة وضع الحديث عندهم .
ومما ينتفع به المرء من عمل غيره من حيث يعد من قبيل عمله لأنه كان سببا له : دعاء أولاده له ، أو حجهم وتصدقهم عنه ، وقضاؤهم لصومه ، كما ثبت في الصحاح ، وهو داخل في حديث " : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث " رواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث والنسائي ، وقد ألحق الله ذرية المؤمنين بهم بنص القرآن ، وصح في الحديث أن أبي هريرة . ومن قال بانتفاع الميت من كل عمل له وإن لم يكن العامل ولده فقد خالف القرآن ولا حجة له في الحديث الصحيح ولا القياس الصحيح . أما الحديث فقد صح فيه الإذن بالصدقة عن الوالدين في الصحيحين والسنن ، وبالصيام والحج المنذرين منهما أو المفروضين من حديث ولد الرجل من كسبه في الصحيحين وغيرهما ، وفيهما من حديث ابن عباس عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ، وقد شبه صلى الله عليه [ ص: 219 ] وسلم الصيام والحج الواجبين بقضاء دين العبادة عنهما ، وأن دين الله أحق بأن يقضى . وقد روي هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بألفاظ مختلفة في السائل ، فقيل : رجل . وقيل : امرأة من من مات وعليه صيام فليصم عنه وليه جهينة هو الصحيح . وفي المسئول عنه ، فقيل : أب . وقيل : أخت . وقيل : أم وهو الصحيح ، وفي المسئول فيه هل هو الصيام أو الحج ، ولا تنافي بينهما لجواز الجمع بينهما ، وتدل عليه رواية لمسلم ، وذكر الراوي وهو لكل منهما في وقت لاقتضاء المقام لذلك ; ولهذا الخلاف قال بعض العلماء : إن ابن عباس ، ولكن حديث الحديث مضطرب لا يحتج به عائشة لا اضطراب فيه ، وقد اختلفوا في الولي فيه ، فقيل : كل قريب . وقيل الوارث . وقيل : العصبة . والراجح المختار أنه الولد لينطبق على الآيات والأحاديث الأخرى . ومن أصولهم أن . العبادات البدنية لا تصح النيابة فيها في الحياة ولا بعد الممات
ومذهب أشهر أئمة الفقه أنه لا يصام عن الميت مطلقا ومنهم أبو حنيفة ومالك والإمام والشافعي والهادوية زيد بن علي والقاسم بن العترة . وحصر أحمد وآخرون الجواز بالنذر عملا بحديث ويلزمه أن يكون من يصوم عن الميت ولده لأن الرواية وردت بذلك ، وما روي في بعض طرقها من ذكر الأخت غلط ظاهر لمخالفته للطريق الصحيح وللآيات والأحاديث ، وحديث ابن عباس الموقوف أو فتواه التي رواها ابن عباس بسند صحيح " لا يصلي أحد عن أحد ولا يصم أحد عن أحد " ومثله عن النسائي عائشة ، وقد جعل الحنفية فتوى مانعة من العمل بحديثه على مذهبهم في ذلك ، وهو أن العالم الصحابي لا يخالف روايته إلا إذا كان لديه ما يمنع العمل بها ككونها منسوخة ، ومذهب غيرهم من أهل الأصول والحديث أن الحجة برواية الصحابي لا برأيه ، فإنه قد يترك العمل بالرواية سهوا أو نسيانا أو تأولا على أنه غير معصوم من تركه عمدا . وعندنا أنه لا تعارض بين قولي ابن عباس ابن عباس وعائشة وروايتهما ; لأن قولهما أو فتواهما بألا يصلي ولا يصوم أحد عن أحد هو أصل الشريعة العام في جميع الناس ، إلا ما استثني بالنص من صيام الولد أو حجه أو صدقته عن والديه ، ولا سيما إذا كان ذلك حقا ثابتا بأصل الشرع ، أو بنذر ، أو إرادة وصية كما كانت الحال في وقائع فتوى النبي صلى الله عليه وسلم لأولئك الأولاد . فلا محل إذا لتخريج الحنفية ولا الجمهور في المسألة ، وكتاب الله فوق كل شيء .
وأما قياس عمل غير الولد على عمله فباطل ، لمخالفته للنص القطعي على كونه قياسا مع الفارق ، وقد غفل عن هذا من عودونا استدراك مثله على المتقدمين ، كشيخي الإسلام والشوكاني من فقهاء الحديث المستقلين .
فعلم مما شرحناه أن كل ما جرت به العادة من قراءة القرآن والأذكار وإهداء ثوابها [ ص: 220 ] إلى الأموات واستئجار القراء وحبس الأوقات على ذلك بدع غير مشروعة ، ومثلها ما يسمونه إسقاط الصلاة ، ولو كان لها أصل في الدين لما جهلها السلف ، ولو علموها لما أهملوا العمل بها ، وليس هذا من قبيل ما لا شك في جوازه ، ووقوعه في كل زمن من فتح الله على بعض الناس بما لم يؤثر عمن قبلهم من حكم الدين وأسراره والفهم في كتابه - كما قال أمير المؤمنين علي المرتضى كرم الله وجهه : إلا أن يؤتي الله عبده فهما في القرآن - بل هو من العبادات العملية التي يهتم الناس بأمرها في كل زمان ولو فعلها الصحابة لتوفرت الدواعي على نقلها بالتواتر أو الاستفاضة .