سورة الحج
قوله تعالى : يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد أمر جل وعلا في أول هذه السورة الكريمة الناس بتقواه جل وعلا ; بامتثال أمره ، واجتناب نهيه ، وبين لهم أن زلزلة الساعة شيء عظيم ، تذهل بسببه المراضع عن أولادها ، وتضع بسببه الحوامل أحمالها ، من شدة الهول والفزع ، وأن الناس يرون فيه كأنهم سكارى من شدة الخوف ، وما هم بسكارى من شرب الخمر ، ولكن عذابه شديد .
وما ذكره تعالى هنا من الأمر بالتقوى ، وذكره في مواضع كثيرة جدا من كتابه ; كقوله في أول سورة النساء : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة إلى قوله : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام [ 4 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وما بينه هنا من شدة ، بينه في غير هذا الموضع ; كقوله تعالى : أهوال الساعة ، وعظم زلزلتها إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها [ 99 - 4 ] وقوله تعالى : وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة [ 69 \ 14 ] ، وقوله تعالى : إذا رجت الأرض رجا وبست الجبال بسا [ 56 \ 4 - 5 ] ، وقوله تعالى : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوب يومئذ واجفة أبصارها خاشعة وقوله تعالى : ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة [ 7 \ 187 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عظم هول الساعة .
وقوله في هذه الآية الكريمة : اتقوا ربكم [ 22 ] قد أوضحنا فيما مضى معنى التقوى بشواهده العربية ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . والزلزلة : شدة التحريك والإزعاج ، ومضاعفة زليل الشيء عن مقره ومركزه ؛ أي تكرير انحرافه وتزحزحه عن موضعه ; لأن [ ص: 255 ] الأرض إذا حركت حركة شديدة تزلزل كل شيء عليها زلزلة قوية .
وقوله : يوم ترونها منصوب بـ ( تذهل ) والضمير عائد إلى الزلزلة . والرؤية بصرية ; لأنهم يرون زلزلة الأشياء بأبصارهم ، وهذا هو الظاهر ، وقيل : إنها من : رأى العلمية .
وقوله : تذهل كل مرضعة [ 22 كل مرضعة أي : كل أنثى ترضع ولدها ، ووجه قوله : مرضعة ، ولم يقل : مرضع : هو ما تقرر في علم العربية ، من أن الأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء ، وإن أريد بها النسب جردت من التاء ، فإن قلت : هي مرضع ، تريد أنها ذات رضاع ، جردته من التاء كقول امرئ القيس :
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع فألهيتها عن ذي تمائم مغيل
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت بني بطنها هذا الضلال عن القصد
كما أشار له بقوله :
وما من الصفات بالأنثى يخص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص
وحيث معنى الفعل يعني التاء زد كذي غدت مرضعة طفلا ولد
وما زعمه بعض النحاة الكوفيين : من أن أم الصبي مرضعة بالتاء ، والمستأجرة للإرضاع : مرضع بلا هاء - باطل ، قاله أبو حيان في البحر . واستدل عليه بقوله :
كمرضعة أولاد أخرى
- البيت ، فقد أثبت التاء لغير الأم ، وقول الكوفيين أيضا : إن الوصف المختص بالأنثى لا يحتاج فيه إلى التاء ; لأن المراد منها الفرق بين الذكر والأنثى ، والوصف المختص بالأنثى لا يحتاج إلى فرق ; لعدم مشاركة الذكر لها فيه - مردود أيضا ، قاله [ ص: 256 ] أبو حيان في البحر أيضا مستدلا بقول العرب : مرضعة ، وحائضة ، وطالقة . والأظهر في ذلك هو ما قدمنا ، من أنه إن أريد الفعل جيء بالتاء ، وإن أريد النسبة جرد من التاء ، ومن مجيء التاء للمعنى المذكور قول الأعشى :أجارتنا بيني فإنك طالقه كذاك أمور الناس غاد وطارقه
وقال في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : لم قيل : ( مرضعة ) دون ( مرضع ) ؟ الزمخشري
قلت : المرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي . والمرضع : التي شأنها أن ترضع ، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، فقيل : ( مرضعة ) ، فيدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها : نزعته عن فيه ; لما يلحقها من الدهشة . وقوله تعالى : عما أرضعت الظاهر أن " ما " موصولة ، والعائد محذوف ؛ أي : أرضعته ، على حد قوله في الخلاصة :
والحذف عندهم كثير منجلي
في عائد متصل إن انتصب بفعل أو وصف كمن نرجو يهب
وقال بعض العلماء : هي مصدرية ؛ أي : تذهل كل مرضعة عن إرضاعها .
قال أبو حيان في البحر : ويقوي كونها موصولة تعدي " وضع " إلى المفعول به في قوله : حملها لا إلى المصدر .
وقوله : وتضع كل ذات حمل حملها ؛ أي : كل صاحبة حمل تضع جنينها من شدة الفزع والهول ، والـ ( حمل ) بالفتح : ما كان في بطن من جنين ، أو على رأس شجرة من ثمر وترى الناس سكارى جمع سكران ؛ أي : يشبههم من رآهم بالسكارى من شدة الفزع وما هم بسكارى من الشراب ولكن عذاب الله شديد والخوف منه هو الذي صير من رآهم يشبههم بالسكارى ، لذهاب عقولهم من شدة الخوف ، كما يذهب عقل السكران من الشراب . وقرأ حمزة : ( وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ( بفتح السين وسكون الكاف في الحرفين على وزن فعلى بفتح فسكون . وقرأه الباقون سكارى بضم السين وفتح الكاف بعدها ألف في الحرفين أيضا ، وكلاهما جمع سكران على التحقيق . وقيل : إن سكرى بفتح فسكون جمع سكر بفتح فكسر بمعنى : [ ص: 257 ] السكران ، كما يجمع الزمن على الزمنى ، قاله والكسائي أبو علي الفارسي ، كما نقله عنه أبو حيان في البحر . وقيل : إن سكرى مفرد ، وهو غير صواب .
واستدلال المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن المعدوم يسمى شيئا ; لأنه وصف زلزلة الساعة بأنها شيء في حال عدمها قبل وجودها . قد بينا وجه رده في سورة مريم ، فأغنى عن إعادته هنا .