فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفا .
والمعنى : أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها .
فماصدق ( ما يعلمون ) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة ، ولكنهم علموا هذه النشأة الأولى فألهاهم التعود بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكون منها بتكوين آخر .
[ ص: 179 ] وعدل عن أن يقال : إنا خلقناهم من نطفة ، كما قال في آيات أخرى إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج وقال أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ، وغيرها من آيات كثيرة ، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله مما يعلمون توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا ، وعلم ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون ، ومنه قوله تعالى ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون . وكان في قوله تعالى مما يعلمون إيماء إلى أنهم يخلقون الخلق الثاني مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وقال ( وننشئكم فيما لا تعلمون ) فكان في الخلق الأول سر لا يعلمونه .
ومجيء إنا خلقناهم موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خلقوا من نطفة وكانوا معدومين ، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائها وبقي بعضها ، ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم مفرعا على قوله إنا خلقناهم مما يعلمون والتقدير : فإنا لقادرون الآية .
وجملة فلا أقسم برب المشارق إلخ معترضة بين الفاء وما عطفته .
والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه : ربوبيته العالم كله ؛ لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها .
وجمع المشارق والمغارب باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات ، ولذلك لم يذكر في القرآن قسم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب . أقسم الله به على سنة أقسام القرآن .
وفي إيثار المشارق والمغارب بالقسم بربها رعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإحياء بعد الموت .
[ ص: 180 ] وتقدم القول في دخول حرف النفي مع لا أقسم عند قوله فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون في سورة الحاقة ، وقوله فلا أقسم بمواقع النجوم في سورة الواقعة .
وقوله على أن نبدل خيرا منهم يحتمل معنيين : أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيرا منهم ، أي : نبدل ذواتهم خلقا خيرا من خلقهم الذي هم عليه اليوم . والخيرية في الإتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقا أتقن من النشأة الأولى ؛ لأنه خلق مناسب لعالم الخلود ، وكان الخلق الأول مناسبا لعالم التغير والفناء ، وعلى هذا الوجه يكون نبدل مضمنا معنى : نعوض ، ويكون المفعول الأول لـ نبدل ضميرا مثل ضمير ( منهم ) أي : نبدلهم والمفعول الثاني خيرا منهم .
و ( من ) تفضيلية ، أي : خيرا في الخلقة ، والتفضيل باعتبار اختلاف زماني الخلق الأول والخلق الثاني ، أو اختلاف عالميهما .
والمعنى الثاني : أن نبدل هؤلاء بخير منهم ، أي : بأمة خير منهم ، والخيرية في الإيمان ، فيكون نبدل على أصل معناه ، ويكون مفعوله محذوفا مثل ما في المعنى الأول ، ويكون خيرا منصوبا على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ويكون هذا تهديدا لهم بأن سيستأصلهم ويأتي بقوم آخرين كما قال تعالى ( إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ) وقوله وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم .
وفي هذا تثبيت للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وتذكير بأن الله عالم بحالهم .
وذيل بقوله وما نحن بمسبوقين ، والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره ، شبه بالمسبوق في الحلبة ، أو بالمسبوق في السير ، وقد تقدم في قوله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ، ومنه قول مرة بن عداء الفقعسي :
كأنك لم تسبق من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
يريد : كأنك لم تغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك .[ ص: 181 ] و ( على أن نبدل أمثالكم ) متعلق بـ ( مسبوقين ) ، أي : ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم .