فرع ذلك على ما أفاده في قوله أولئك في جنات مكرمون .
والمعنى : أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فلماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم ؟ .
وهذا وإن كان خطابا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم [ ص: 176 ] من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاما للنبيء - صلى الله عليه وسلم - لذلك ؛ لأنه شيء مقرر في علمه .
ومعنى فما للذين كفروا : أي شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك ، أو في حال إهطاعهم إليك .
وقد تقدم عند قوله تعالى قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا في سورة البقرة . وتركيب ( ما له ) لا يخلو من حال مفردة ، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصب الاستفهام . فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف ، أي : قبلك فيكون ظرفا مستقرا وصاحب الحال هو ( للذين كفروا ) . ويجوز أن تكون ( مهطعين ) فيكون ( قبلك ) ظرفا لغوا متعلقا بـ ( مهطعين ) . وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخر المجرى اللائق به في التركيب . وكتب في المصحف اللام الداخلة على ( الذين ) مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر .
والإهطاع : مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى ( مهطعين إلى الداع ) في سورة القمر .
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب الكشاف : كان المشركون يجتمعون حول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم . فأنزل الله هذه الآية .
وقبل : اسم بمعنى ( عند ) .
وتقديم الظرف على مهطعين للاهتمام به ؛ لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبيء - صلى الله عليه وسلم - أقوى لما فيهم من الوقاحة .
وموقع قوله عن اليمين وعن الشمال مثل موقع قبلك وموقع مهطعين . والمقصود : كثرة الجهات ، أي : واردين إليك .
[ ص: 177 ] والتعريف في اليمين والشمال تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه .
والمقصود من ذكر اليمين والشمال : الإحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال ، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حولهما ، ومثله قول : قطري بن الفجاءة
فلقد أراني للرماح دريئة من عن يميني مرة وأمامي
يريد : من كل جهة .و ( عزين ) حال من الذين كفروا . وعزين : جمع عزة ، بتخفيف الزاي ، وهي الفرقة من الناس ، اسم بوزن فعلة . وأصله عزوة بوزن كسوة ، وليست بوزن عدة . وجرى جمع ( عزة ) على الإلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس ، وهو من باب سنة من كل اسم ثلاثي حذفت لامه وعوض عنها هاء التأنيث ولم يكسر مثل عضة ( للقطعة ) .
وهذا التركيب في قوله تعالى فما للذين كفروا قبلك مهطعين إلى قوله ( جنة نعيم ) يجوز أن يكون استعارة تمثيلية ، شبه حالهم في إسراعهم إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - بحال من يظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة ، ؛ لأن الشأن أن لا يلتف حول النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلا طالبو الاهتداء بهديه .
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه ؛ لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها .
ويجوز أن يكون الكلام استفهاما مستعملا في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم .
وجملة أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم بدل اشتمال عن جملة فمال الذين كفروا قبلك مهطعين الآية ، ؛ لأن التفافهم حول النبيء - صلى الله عليه وسلم - شأنه أن يكون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأورد استفهام عليه .
وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين : نحن ندخل الجنة قبل المسلمين ، فجاز أن يكون الاستفهام إنكارا لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم ، أو بالتعبير بفعل [ ص: 178 ] يطمع عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم أي : يتظاهرون بأنهم يحذرون .
وأسند الطمع إلى كل امرئ منهم دون أن يقال : أيطمعون أن يدخلوا الجنة ، تصويرا لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم ، يرون أنفسهم سواء في ذلك ، ففي قوله ( كل امرئ منهم ) تقوية التهكم بهم .
ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما بني عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي ( كلا ) أي : لا يكون ذلك . وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعا لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكما .
وهنا تم الكلام على إثبات الجزاء .