[ ص: 191 ] بيان رواية الجماعة لما رواه الصديق وموافقتهم على ذلك
قال : حدثنا البخاري يحيى بن بكير ، ثنا الليث ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني وكان مالك بن أوس بن الحدثان ، محمد بن جبير بن مطعم ذكر لي ذكرا من حديثه ذلك ، فانطلقت حتى دخلت عليه ، فسألته ، فقال : انطلقت حتى أدخل على عمر فأتاه حاجبه يرفا ، فقال : هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، والزبير ، وسعد ؟ قال : نعم . فأذن لهم ، ثم قال : هل لك في علي وعباس ؟ قال : نعم . قال عباس : يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا . قال أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعملون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا نورث ، ما تركنا صدقة يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ؟ قال الرهط : قد قال ذلك . فأقبل على " علي وعباس ، فقال هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك ؟ قالا : قد قال ذلك . قال عمر بن الخطاب : فإني أحدثكم عن هذا الأمر ; إن الله كان قد خص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ; قال : وما أفاء الله على رسوله إلى قوله قدير [ الحشر : 6 ] فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ما [ ص: 192 ] احتازها دونكم ، ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموها وبثها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله ، فعمل بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، أنشدكم بالله هل تعلمون ذلك ؟ قالوا : نعم . ثم قال لعلي وعباس : أنشدكما بالله هل تعلمان ذلك ؟ قالا : نعم . فتوفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر ، رضي الله عنه : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقبضها ، فعمل بما عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توفى الله أبا بكر ، فقلت : أنا ولي ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضتها سنتين ، أعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، ثم جئتماني وكلمتكما واحدة وأمركما جميع جئتني تسألني نصيبك من ابن أخيك ، وجاءني هذا ليسألني نصيب امرأته من أبيها ، فقلت : إن شئتما دفعتها إليكما بذلك ، فتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ ! فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ، فإن عجزتما فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها . وقد رواه في أماكن متفرقة من " صحيحه " ، البخاري ومسلم وأهل السنن من طرق ، عن الزهري به .
وفي رواية في " الصحيحين " : فقال عمر : فوليها أبو بكر ، فعمل فيها بما [ ص: 193 ] عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله يعلم أنه صادق بار راشد تابع للحق ، ثم وليتها فعملت فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، والله يعلم أني صادق بار راشد تابع للحق ، ثم جئتماني فدفعتها إليكما لتعملا فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعملت فيها أنا ، أنشدكم بالله أدفعتها إليهما بذلك ؟ قالوا : نعم . ثم قال لهما : أنشدكما بالله هل دفعتها إليكما بذلك ؟ قالا : نعم . قال : أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ ! لا والذي بإذنه تقوم السماء والأرض .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن الزهري ، عن قال : سمعت مالك بن أوس عمر يقول لعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد : نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض بأمره ، أعلمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قالوا : نعم . على شرط " الصحيحين " . " لا نورث ، ما تركنا صدقة "
قلت : وكان الذي سألاه بعد تفويض النظر إليهما ، والله أعلم ، هو أن يقسم بينهما النظر ، فيجعل لكل واحد منهما نظر ما كان يستحقه بالإرث لو قدر أنه كان وارثا ، وكأنهما قدما بين أيديهما جماعة من الصحابة منهم ; عثمان وابن عوف وطلحة والزبير وسعد ، وكان قد وقع بينهما خصومة شديدة بسبب إشاعة النظر بينهما ، فقالت الصحابة الذين قدماهم بين أيديهما : يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فكأن عمر رضي الله عنه تحرج من قسمة النظر بينهما بما يشبه قسمة الميراث ، ولو في الصورة الظاهرة ; محافظة على امتثال قوله صلى الله عليه وسلم فامتنع عليهم كلهم وأبى من [ ص: 194 ] ذلك أشد الإباء رضي الله عنه وأرضاه ، ثم إن " لا نورث ، ما تركنا صدقة " عليا والعباس استمرا على ما كانا عليه ، ينظران فيها جميعا إلى زمان عثمان بن عفان ، فغلبه عليها علي ، وتركها له العباس بإشارة ابنه عبد الله رضي الله عنهما ، بين يدي عثمان ، كما رواه أحمد في " مسنده " . فاستمرت في أيدي العلويين . وقد تقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإنى ، ولله الحمد ، جمعت لكل واحد منهما مجلدا ضخما مما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورآه من الفقه النافع الصحيح ، ورتبته على أبواب الفقه المصطلح عليها اليوم . وقد روينا أن فاطمة ، رضي الله عنها ، احتجت أولا بالقياس ، وبالعموم في الآية الكريمة ، فأجابها الصديق بالنص على الخصوص بالمنع في حق النبي صلي الله عليه وسلم ، وأنها سلمت له ما قال . وهذا هو المظنون بها ، رضي الله عنها .
فقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، ثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، أن فاطمة قالت لأبي بكر : من يرثك إذا مت ؟ قال : ولدي وأهلي . قالت : فما لنا لا نرث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن النبي لا يورث " ولكني أعول من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعول ، وأنفق على من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفق . وقد رواه الترمذي في " جامعه " ، عن عن محمد بن المثنى ، حدثنا أبي الوليد الطيالسي ، حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن فذكره فوصل [ ص: 195 ] الحديث . وقال أبي هريرة ، الترمذي : حسن غريب .
فأما الحديث الذي قال الإمام أحمد : حدثنا ثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، عن محمد بن فضيل ، الوليد بن جميع ، عن قال : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت أبي الطفيل فاطمة إلى أبي بكر : أأنت ورثت رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أهله ؟ فقال : لا ، بل أهله . قالت ، فأين سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه جعله للذي يقوم من بعده " فرأيت أن أرده على المسلمين . قالت : فأنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا رواه أبو داود ، عن عن عثمان بن أبي شيبة ، به . ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة ، ولعله روي بمعنى ما فهمه بعض الرواة ، ومنهم من فيه تشيع ، فليعلم ذلك . وأحسن ما فيه قولها : أنت وما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهذا هو المظنون بها ، واللائق بأمرها وسيادتها وعلمها ودينها ، رضي الله عنها ، وكأنها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظرا على هذه الصدقة فلم يجبها إلى ذلك ; لما قدمناه ، فتعتبت عليه بسبب ذلك وهي امرأة من بني آدم ، تأسف كما يأسفون ، وليست بواجبة العصمة مع وجود نص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومخالفة محمد بن فضيل أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه وأرضاه ، وقد روينا عن أبي بكر ، رضي الله عنه أنه ترضى فاطمة وتلاينها [ ص: 196 ] قبل موتها ، فرضيت ، رضي الله عنها .
قال الحافظ أبو بكر : أخبرنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، ثنا بنيسابور ، أنبأنا عبدان بن عثمان العتكي أبو حمزة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي قال : فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها ، فقال لما مرضت علي : يا فاطمة ، هذا أبو بكر يستأذن عليك . فقالت : أتحب أن آذن له ؟ قال : نعم . فأذنت له ، فدخل عليها يترضاها فقال : والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلا ابتغاء مرضاة الله ، ومرضاة رسوله ، ومرضاتكم أهل البيت . ثم ترضاها حتى رضيت . وهذا إسناد جيد قوي . والظاهر أن سمعه من عامرا الشعبي علي ، أو ممن سمعه من علي .
وقد اعترف علماء أهل البيت بصحة ما حكم به أبو بكر في ذلك ; قال الحافظ : أنبأنا البيهقي محمد بن عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو عبد الله الصفار ، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ، ثنا نصر بن علي ، ثنا ابن داود ، عن قال : قال فضيل بن مرزوق : أما أنا فلو كنت مكان زيد بن علي بن الحسين بن علي أبي بكر ، رضي الله عنه ، لحكمت بما حكم به أبو بكر ، رضي الله عنه ، في فدك .