تنبيه على واقعة غريبة واتفاق عجيب
نائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر - فيما بلغنا - في نفسه الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي مدبر الدولة بها ، وقد توسم وتوهم منه أنه يسعى في صرفه عن الشام ، وفي نفس نائبنا قوة وصرامة شديدة ، فتنسم منه ببعض الإباء عن طاعة يلبغا مع استمراره على طاعة السلطان ، وأنه إن اتفق عزل من قبل يلبغا أنه لا يسمع ولا يطيع ، فعمل أعمالا ، واتفق في غضون هذا الحال موت نائب عتب على أتابك الديار المصرية القلعة المنصورة بدمشق ، وهو الأمير سيف الدين برتاق الناصري ، فأرسل نائب السلطنة من أصحابه وحاشيته من يتسلم القلعة برمتها ، ودخل هو بنفسه إليها ، وطلب الأمير زين الدين زبالة الذي كان فقيها ثم نائبها ، وهو من أخبر الناس بها وبخطاتها وحواصلها ، فدار معه فيها ، وأراه حصونها ، وبروجها ، ومفاتحها ، وأغلاقها ، ودورها ، وقصورها ، وعددها ، وبركتها ، وما هو معد فيها ولها ، وتعجب الناس من هذا الاتفاق في هذا الحال ، حيث لم يتفق ذلك لأحد من النواب قبله قط ، وفتح الباب الذي هو تجاه دار السعادة ، وجعل نائب السلطنة يدخل منه إلى القلعة ، ويخرج بخدمه ، وحشمه ، وأبهته; ليكشف أمرها ، وينظر في مصالحها - أيده الله .
[ ص: 630 ] ولما كان يوم السبت خامس عشر شعبان ركب في الموكب على العادة ، واستدعى الأمير سيف الدين أسندمر الذي كان نائب الشام ، وهو في منزله كالمعتقل فيه ، لا يركب ، ولا يراه أحد - فأحضره إليه ، وركب معه ، وكذلك الأمراء الذين قدموا من الديار المصرية; طنيرق وهو أحد أمراء الألوف ، وطيدمر الحاجب ، كان ، وأما ابن صبح وعمر شاه فإنهما كانا قد سافرا يوم الجمعة عشية النهار ، والمقصود : أنه سيرهم وجميع الأمراء بسوق الخيل ، ونزل بهم كلهم إلى دار السعادة ، فتعاهدوا ، وتعاقدوا ، واتفقوا على أن يكونوا كلهم كتفا واحدا وعصبة واحدة على مخالفة من أرادهم بسوء ، وأنهم يد على من سواهم ممن أراد عزل أحد منهم أو قتله ، وأن من قاتلهم على ذلك قاتلوه ، وأن السلطان هو ابن أستاذهم الملك المنصور محمد بن حاجي بن الناصر بن المنصور قلاوون ، فطاوعوا كلهم لنائب السلطنة على ما أراد من ذلك ، وحلفوا له ، وخرجوا من عنده على هذا الحلف ، وقام نائب السلطنة على عادته في عظمة هائلة ، وأبهة كثيرة ، والمسئول من الله حسن العاقبة .
وفي صبيحة يوم الأحد سادس عشر شعبان أبطل ملك الأمراء المكس الذي يؤخذ من الملح ، وأبطل مكس الأفراح ، وأبطل أن تغني امرأة لرجال ، ولا رجل لنساء ، وهذا في غاية ما يكون من المصلحة العظيمة الشامل نفعها . وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره شرع نائب السلطنة سيف الدين بيدمر في نصب مجانيق على أعالي بروج القلعة ، فنصبت أربع مجانيق من جهاتها الأربع ، وبلغني أنه نصب آخر في أرضها عند البحرة ، ثم نصب آخر وآخر ، حتى شاهد الناس ستة مجانيق على ظهور الأبرجة ، وأخرج منها القلعية ، وأسكنها خلقا من الأكراد [ ص: 631 ] والتركمان وغيرهم من الرجال الأنجاد ، ونقل إليها من الغلات ، والأطعمة ، والأمتعة ، وآلات الحرب شيئا كثيرا ، واستعد للحصار إن حوصر فيها بما يحتاج إليه من جميع ما يرصد من القلاع بما يفوت الحصر . ولما شاهد أهل البساتين المجانيق قد نصبت في القلعة انزعجوا ، وانتقل أكثرهم من البساتين إلى البلد ، ومنهم من أودع عند أهل البلد نفائس أموالهم وأمتعتهم ، والعاقبة إلى خير إن شاء الله تعالى .
وجاءتني فتيا صورتها : ما يقول السادة العلماء في ملك اشترى غلاما فأحسن إليه ، وأعطاه ، وقدمه ثم إنه وثب على سيده فقتله ، وأخذ ماله ، ومنع ورثته منه ، وتصرف في المملكة ، وأرسل إلى بعض نواب البلاد ليقدم عليه ليقتله ، فهل له الامتناع منه ؟ وهل إذا قاتل دون نفسه وماله حتى يقتل يكون شهيدا أم لا ؟ وهل يثاب الساعي في خلاص حق ورثة الملك المقتول من القصاص والمال ؟ أفتونا مأجورين .
فقلت للذي جاءني بها من جهة الأمير : إن كان مراده خلاص ذمته فيما بينه وبين الله تعالى فهو أعلم بنيته في الذي يقصده ، ولا يسعى في تحصيل حق معين إذا ترتب على ذلك مفسدة راجحة على ذلك ، فيؤخر الطلب إلى وقت إمكانه بطريقه ، وإن كان مراده بهذا الاستفتاء أن يتقوى بها في جمع الدولة والأمراء عليه فلا بد أن يكتب عليها كبار القضاة والمشايخ أولا ، ثم بعد ذلك بقية المفتين بطريقه ، والله الموفق للصواب .
هذا وقد اجتمع على الأمير نائب السلطنة جميع أمراء الشام ، حتى قيل : إن فيهم من نواب السلطنة سبعة عشر أميرا ، وكلهم يحضر معه المواكب الهائلة ، [ ص: 632 ] وينزلون معه إلى دار السعادة ، ويمد لهم الأسمطة ويأكل معهم ، وجاء الخبر بأن الأمير منجك الطرخاني المقيم ببيت المقدس قد أظهر الموافقة لنائب السلطنة ، فأرسل إليه جبريل ، ثم عاد فأخبر بالموافقة ، وأنه قد استحوذ على غزة ، ونائبه ، وقد جمع ، وحشد ، واستخدم طوائف ، ومسك على الجادة ، فلا يدع أحدا يمر إلا أن يفتش ما معه لاحتمال إيصال كتب من هاهنا إلى هاهنا ، ومع هذا كله فالمعدلة ثابتة جدا ، والأمن حاصل هناك ، فلا يخاف أحد ، وكذلك بدمشق وضواحيها ، لا يهاج أحد ، ولا يتعدى أحد على أحد ، ولا ينهب لأحد شيء ، ولله الحمد ، غير أن بعض أهل البساتين قد انزعجوا وتوهموا ، ونزلوا المدينة ، وتحولوا ، وأودع بعضهم نفائس ما عندهم ، وأقاموا بها على وجل; وذلك لما رأوا المجانيق الستة منصوبة على رءوس قلال الأبراج التي للقلعة ، ثم أحضر نائب السلطنة القضاة الأربعة ، والأمراء كلهم ، وكتبوا مكتوبا سطره بينهم كاتب السر : أنهم راضون بالسلطان ، كارهون ليلبغا ، وأنهم لا يريدونه ، ولا يوافقون على تصرفه في المملكة ، وشهد عليهم القضاة بذلك ، وأرسلوا المكتوب مع مملوك للأمير طيبغا الطويل نظير يلبغا بالديار المصرية ، وأرسل منجك إلى نائب السلطنة يستحثه في الحضور إليه في الجيش ليناجزوا المصريين ، فعين نائب الشام من الجيش طائفة يبرزون بين يديه ، وخرجت التجريدة ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان صحبة أسندمر الذي كان نائب الشام مددا للأمير منجك في ألفين ، ويذكر الناس أن نائب السلطنة بمن بقي من الجيش يذهبون على إثرهم ، ثم خرجت أخرى بعدها ثلاثة آلاف ليلة الثلاثاء ثاني من رمضان [ ص: 633 ] كما سيأتي .
وتوفي الشيخ الحافظ علاء الدين مغلطاي المصري بها في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شعبان من هذه السنة ، ودفن من الغد بالزيدانية ، وقد كتب الكثير ، وصنف ، وجمع ، وكانت عنده كتب كثيرة جدا ، رحمه الله .
وفي مستهل رمضان أحضر جماعة من التجار إلى دار العدل ظاهر باب النصر ليباع شيء عليهم من القند ، والفولاذ ، والزجاج مما هو في حواصل يلبغا ، فامتنعوا من ذلك خوفا من استعادة ثمنه منهم على تقدير ، فضرب بعضهم ، منهم شهاب الدين بن الصواف - بين يدي الحاجب ، وشاد الدواوين ، ثم أفرج عنهم في اليوم الثاني ، ففرج الله بذلك .
وخرجت التجريدة ليلة الثلاثاء بعد العشاء صحبة ثلاثة مقدمين; وهم عراق ، ثم ابن صبح ، ثم ابن طرغية ، ودخل نائب طرابلس الأمير سيف الدين تومان إلى دمشق صبيحة يوم الأربعاء عاشر رمضان ، فتلقاه ملك الأمراء سيف الدين بيدمر إلى القصر ، ودخلا معا في أبهة عظيمة ، فنزل تومان في القصر الأبلق ، وبرز من معه من الجيوش إلى عند قبة يلبغا ، هذا والقلعة منصوب عليها المجانيق ، وقد ملئت حرسا شديدا ، ونائب السلطنة في غاية التحفظ . ولما أصبح يوم الخميس صمم تومان تمر على ملك الأمراء في الرحيل إلى غزة ليتوافى [ ص: 634 ] هو وبقية من تقدمه من الجيش الشامي ، ومنجك ومن معه هنالك ، ليقضي الله أمرا كان مفعولا ، فأجابه إلى ذلك ، وأمر بتقدم السبق بين يديه في هذا اليوم ، فخرج السبق ، وأغلقت القلعة بابها المسلوك الذي عند دار الحديث ، فاستوحش الناس من ذلك ، والله يحسن العاقبة .