لما كثر طمعه ، وتزايد شرهه ، وساءت سيرته إلى رعيته ، وضيق عليهم في معايشهم وأكسابهم ، وبنى البنايات الجبارة التي لا يحتاج إلى كثير منها ، واستحوذ على كثير من أملاك بيت المال وأمواله ، واشترى منه قرايا كثيرة ، ومدنا أيضا ، ورساتيق ، وشق ذلك على الناس جدا ، ولم يتجاسر أحد من القضاة ، ولا الولاة ، ولا العلماء ، ولا الصلحاء على الإنكار عليه ، ولا الهجوم عليه ، ولا النصيحة له بما هو مصلحة له وللمسلمين - انتقم الله منه ، فسلط عليه جنده ، وقلب قلوب رعيته من الخاصة والعامة عليه; لما قطع من أرزاقهم ، ومعاليمهم ، وجوامكهم ، وأخبازهم ، وأضاف ذلك جميعه إلى خاصته ، فقلت الأمراء ، والأجناد ، والمقدمون ، والكتاب ، والموقعون ، ومس الناس الضرر ، وتعدى على جوامكهم ، وأولادهم ، ومن يلوذ بهم ، فعند ذلك قدر الله تعالى هلاكه على يد أحد خواصه ، وهو الأمير الكبير سيف الدين يلبغا الخاصكي ، وذلك أنه أراد السلطان مسكه فاعتد لذلك ، وركب السلطان لمسكه فركب هو في جيش ، وتلاقيا في ظاهر القاهرة حيث كانوا نزولا في الوطاقات ، فهزم السلطان بعد كل حساب ، وقد قتل من الفريقين طائفة ، ولجأ السلطان إلى قلعة الجبل : كلا لا وزر [ القيامة : 11 ] ، ولن ينجي حذر من قدر ، فبات الجيش بكماله محدقا [ ص: 625 ] بالقلعة ، فهم بالهرب في الليل على هجن كان قد اعتدها ليهرب إلى الكرك ، فلما برز مسك ، واعتقل ، ودخل به إلى دار يلبغا الخاصكي المذكور ، وكان آخر العهد به ، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى من هذه السنة ، وصارت الدولة والمشورة متناهية إلى الأمير سيف الدين يلبغا الخاصكي ، فاتفقت الآراء ، واجتمعت الكلمة ، وانعقدت البيعة للملك المنصور صلاح الدين محمد ابن المظفر حاجي ، وخطب الخطباء ، وضربت السكة ، وسارت البريدية للبيعة باسمه الشريف ، هذا وهو ابن ثنتي عشرة ، وقيل : أربع عشرة ، ومن الناس من قال : ست عشرة . ورسم بعود الأمور إلى ما كانت عليه في أيام والده الناصر محمد بن قلاوون ، وأن يبطل جميع ما كان أخذه الملك الناصر حسن ، وأن تعاد المرتبات والجوامك التي كان قطعها ، وأمر بإحضار طاز ، وطشتمر القاسمي من سجن إسكندرية إلى بين يديه ليكونا أتابكا ، وجاء الخبر إلى دمشق صحبة الأمير سيف الدين بزلار شاد الشربخاناه أحد أمراء الطبلخاناه بمصر صبيحة يوم الأربعاء سادس عشر الشهر ، فضربت البشائر بالقلعة ، وطبلخاناه الأمراء على أبوابهم ، وزين البلد بكماله ، وأخذت البيعة له صبيحة يومئذ بدار السعادة ، وخلع على نائب السلطنة تشريف هائل ، وفرح أكثر الأمراء والجند والعامة ، ولله الأمر وله الحكم ، قال تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء [ آل عمران : 26 ] الآية .
ووجد على حجر بالحميرية فقرئت للمأمون فإذا مكتوب :
ما اختلف الليل والنهار ولا دارت نجوم السماء في الفلك إلا لنقل النعيم من ملك
قد زال سلطانه إلى ملك [ ص: 626 ] وملك ذي العرش دائم أبدا
ليس بفان ولا بمشترك
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا حياة للإنسان
ليس فيما علمت فيك عي ب يذكر غير أنك فاني
وقدم نائب طرابلس المعزول عليلا ، والأمير سيف الدين أسندمر الذي كان نائب دمشق ، وكانا مقيمين بطرابلس جميعا - في صبيحة يوم السبت السادس والعشرين منه ، فدخلا دار السعادة ، فلم يحتفل بهما نائب السلطنة .
[ ص: 627 ] وتكامل في هذا الشهر تجديد الرواق غربي باب الناطفانيين إصلاحا لدرابزيناته ، وتبييضا لجدرانه ومحراب فيه ، وجعل له شبابيك في الدرابزينات ، ووقف فيه قراءة قرآن بعد المغرب ، وذكروا أن شخصا رأى مناما فقصه على نائب السلطنة فأمر بإصلاحه . وفيه نهض بناء المدرسة التي إلى جانب هذا المكان من الشباك ، وقد كان أسسها أولا نجم الدين غلام ابن هلال ، فلما صودر أخذت منه ، وجعلت مضافة إلى السلطان ، فبنوا فوق الأساسات ، وجعلوا لها خمسة شبابيك من شرقها ، وبابا قبليا ، ومحرابا ، وبركة ، وعراقية ، وجعلوا حائطها بالحجارة البيض والسود ، وكملوا عاليها بالآجر ، وجاءت في غاية الحسن ، وقد كان السلطان الناصر حسن قد رسم بأن تجعل مكتبا للأيتام ، فلم يتم أمرها حتى قتل ، كما ذكرنا .
واشتهر في هذا الشهر أن بقرة كانت تجيء من ناحية باب الجابية تقصد جراء لكلبة ، قد ماتت أمهم ، وهي في ناحية كنيسة مريم في خرابة ، فتجيء إليهم فتنسطح على شقها فترضع أولئك الجراء منها ، تكرر هذا منها مرارا ، وأخبرني المحدث المفيد التقي نور الدين أحمد بن المقصوص بمشاهدته ذلك .
وفي العشر الأوسط من جمادى الآخرة نادى مناد من جهة نائب السلطنة - حرسه الله تعالى - في البلد أن النساء يمشين في تستر ، ويلبسن أزرهن إلى أسفل من سائر ثيابهن ، ولا يظهرن زينة ولا يدا ، فامتثلن ذلك ، ولله الحمد [ ص: 628 ] والمنة . وقدم أمير العرب حيار بن مهنا في أبهة هائلة ، وتلقاه نائب السلطنة إلى أثناء الطريق ، وهو قاصد إلى الأبواب الشريفة .
وفي أواخر رجب قدم الأمير سيف الدين تمر المهمندار من نيابة غزة حاجب الحجاب بدمشق ، وعلى مقدمة رأس الميمنة ، وأطلق نائب السلطنة مكوسات كثيرة ، وأبطل ما كان يؤخذ من المحتسبين زيادة على نصف درهم ، وما يؤخذ من أجرة عدة الموتى كل ميت بثلاثة ونصف ، وجعل العدة التي في القيسارية للحاجة مسبلة لا تنحجر على أحد في تغسيل ميت ، وهذا حسن جدا ، وكذلك منع التحجر في بيع الثلج المختص به ، وبيع مثل بقية الناس من غير طرخان فرخص على الناس في هذه السنة جدا ، حتى قيل : إنه بيع القنطار بعشرة وما حولها .
وفي شهر شعبان قدم الأمير حيار بن مهنا من الديار المصرية فنزل القصر الأبلق ، وتلقاه نائب السلطنة ، وأكرم كل منهما الآخر ، ثم ترحل بعد أيام قلائل ، وقدم الأمراء الذين كانوا بحبس الإسكندرية في صبيحة يوم الجمعة سابعه ، وفيهم الأمير شهاب الدين بن صبح ، وسيف الدين طيدمر الحاجب ، وطنيرق مقدم ألف ، وعمر شاه ، هذا ونائب السلطنة الأمير سيف الدين بيدمر - أعزه [ ص: 629 ] الله - يبطل المكوسات شيئا بعد شيء مما فيه مضرة بالمسلمين ، وبلغني عنه أن من عزمه أن يبطل جميع ذلك إن أمكنه الله من ذلك ، آمين ، انتهى .