[ ص: 530 ] ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة
استهلت هذه السنة وسلطان البلاد الشامية ، والديار المصرية ، والحرمين الشريفين ، وما يلحق بذلك من الأقاليم والبلدان - الملك الناصر حسن ابن السلطان الملك محمد ابن السلطان الملك المنصور قلاوون الصالحي ، ونائبه بالديار المصرية الأمير سيف الدين بيبغا الملقب بحارس الطير ، وهو عوض عن الأمير سيف الدين بيبغا آروس الذي راح إلى بلاد الحجاز ومعه جماعة من الأمراء بقصد الحج الشريف ، فعزله السلطان في غيبته ، وأمسك على شيخون واعتقله ، وأخذ منجك الوزير - وهو أستادار ومقدم ألف - واصطفى أمواله ، واعتاض عنه ، وولى مكانه في الوزارة القاضي علم الدين بن زينور ، واسترجع إلى وظيفة الدويدارية الأمير سيف الدين طشبغا الناصري ، وكان أميرا بالشام مقيما منذ عزل إلى أن أعيد في أواخر السنة كما تقدم ، وأما كاتب السر بمصر وقضاتها فهم المذكورون في التي قبلها .
واستهلت هذه السنة ونائب صفد قد حصن القلعة ، وأعد فيها عدتها وما ينبغي لها من الأطعمات ، والذخائر ، والعدد ، والرجال ، وقد نابذ المملكة وحارب ، [ ص: 531 ] وقد قصدته العساكر من كل جانب من الديار المصرية ، ودمشق ، وطرابلس ، وغيرها ، والأخبار قد ضمنت عن بيبغا ، ومن معه ببلاد الحجاز ما يكون من أمره ، ونائب دمشق في احتراز وخوف من أن يأتي إلى بلاد الشام فيدهمها بمن معه ، والقلوب وجلة من ذلك ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفيها ورد الخبر أن صاحب اليمن حج في هذه السنة ، فوقع بينه وبين صاحب مكة عجلان; بسبب أنه أراد أن يولي عليها أخاه ثقبة ، فاشتكى عجلان ذلك إلى أمراء المصريين ، وكبيرهم إذ ذاك الأمير سيف الدين طاز ، وأمير حجتهم وأمير حجيجهم الأمير سيف الدين بزلار ، ومعهم طائفة كثيرة ، وقد أمسكوا أخاهم بيبغا ، وقيدوه فقوي رأسه عليهم ، واستخف بهم ، فصبروا حتى قضي الحج ، وفرغ الناس من المناسك ، فلما كان يوم النفر الأول يوم الخميس تواقفوا هم وهو ، فقتل من الفريقين خلق كثير ، والأكثر من اليمنيين ، وكانت الوقعة قريبة من وادي محسر ، وبقي الحجيج خائفين أن تكون الدائرة على الأتراك فتنهب الأعراب أموالهم ، وربما قتلوهم ، ففرج الله تعالى ، ونصر الأتراك على أهل اليمن ، ولجأ الملك المجاهد إلى جبل فلم يعصمه من الأتراك ، بل أسروه ذليلا حقيرا ، وأخذوه مقيدا أسيرا ، وعاث عوام الناس في اليمنيين ، فنهبوا شيئا كثيرا ، ولم يتركوا لهم جليلا ولا حقيرا ، ولا قليلا ولا كثيرا ، واحتاط الأمراء على حواصل الملك ، وأمواله ، وأمتعته ، وأثقاله ، وساروا بخيله وجماله ، وأدنوا إلى [ ص: 532 ] صنديد من رحله ورجاله ، واستصحبوا معهم طفيلا الذي كان حاصر المدينة النبوية في العام الماضي ، وقيدوه أيضا ، وجعلوا الغل في عنقه ، واستاقوه كما يستاق الأسير في وثاقه مصحوبا بهمه ، وحتفه ، وانشمروا عن تلك البلاد إلى ديارهم راجعين ، وقد فعلوا فعلة تذكر بعدهم إلى حين .
ودخل الركب الشامي إلى دمشق يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من المحرم على العادة المستمرة ، والقاعدة المستقرة .
وفي هذا اليوم قدمت البريدية من تلقاء مدينة صفد مخبرة بأن الأمير شهاب الدين أحمد بن مشد الشربخاناه ، الذي كان قد تمرد بها ، وطغى ، وبغى حتى استحوز عليها ، وقطع سبلها ، وقتل الفرسان والرجالة ، وملأها أطعمة وأسلحة ، ومماليكه ورجاله ، فعندما تحقق مسك بيبغا آروس خضعت تلك النفوس ، وخمدت ناره ، وسكن شراره ، وأخذ بناره ، ووضح قراره ، وأناب إلى التوبة والإقلاع ، ورغب إلى السلامة والإخلاص ، وخضع ولات حين مناص ، وأرسل سيفه إلى السلطان ، ثم توجه بنفسه على البريد إلى حضرة الملك الناصر ، والله المسئول أن يحننه عليه ، وأن يقبل بقلبه إليه .
وفي يوم الأحد خامس صفر قدم من الديار المصرية الأمير سيف الدين أرغون الكاملي معادا إلى نيابة حلب ، وفي صحبته الأمير سيف الدين طشبغا الدوادار بالديار المصرية ، وهو زوج ابنة نائب الشام ، فتلقاه نائب الشام وأعيان [ ص: 533 ] الأمراء ، ونزل طشبغا الدوادار عند زوجته بدار منجا في محلة مسجد القصب التي كانت تعرف بدار حنين بن حيدر ، وقد جددت في السنة الماضية ، وتوجها في الليلة الثانية من قدومهما إلى حلب .
وفي يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول اجتمع القضاة الثلاثة ، وطلبوا الحنبلي ليتكلموا معه فيما يتعلق بدار المعتمد التي بجوار مدرسة الشيخ أبي عمر التي حكم بنقض وقفها ، وهدم بابها ، وإضافتها إلى دار القرآن المذكورة ، وجاء مرسوم السلطان بوقف ذلك ، وكان القاضي الشافعي قد أراد منعه من ذلك ، فلما جاء مرسوم السلطان اجتمعوا لذلك ، فلم يحضر القاضي الحنبلي ، وقال : حتى يجيء نائب السلطنة .
ولما كان يوم الخميس خامس عشر ربيع الأول حضر القاضي حسين ولد قاضي القضاة تقي الدين السبكي عن أبيه مشيخة دار الحديث الأشرفية ، وقرئ عليه شيء كان قد خرجه له بعض المحدثين ، وشاع في البلد أنه نزل له عنها ، وتكلموا في ذلك كلاما كثيرا ، وانتشر القول في ذلك ، وذكر بعضهم أنه نزل له عن الغزالية ، والعادلية ، واستخلفه في ذلك ، فالله أعلم .
وفي سحر ليلة الخميس خامس شهر جمادى الأولى ، وقع حريق عظيم في الحرانيين في السوق الكبير ، واحترقت دكاكين الفواخرة والمناخليين ، وفرجة الغرابيل ، وإلى درب القلي ، ثم إلى قريب درب العميد ، وصارت تلك [ ص: 534 ] الناحية دكا بلقعا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وجاء نائب السلطنة بعد الأذان إلى هناك ، ورسم بطفي النار ، وجاء المتولي ، والقاضي الشافعي ، والحجاب ، وشرع الناس في طفي النار ، ولو تركوها لأحرقت شيئا كثيرا ، ولم يفقد - فيما بلغنا - أحد من الناس ، ولكن هلك للناس شيء كثير من المتاع ، والأثاث ، والأملاك ، وغير ذلك ، واحترق للجامع من الرباع في هذا الحريق ما يساوي مائة ألف درهم .