[ ص: 523 ] شمس الدين بن قيم الجوزية ترجمة الشيخ
وفي ليلة الخميس ثالث عشر رجب ، وقت أذان العشاء توفي صاحبنا الإمام الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ، إمام الجوزية ، وابن قيمها ، وصلي عليه بعد صلاة الظهر من الغد بالجامع الأموي ، ودفن عند والدته بمقابر الباب الصغير ، رحمه الله . ولد في سنة إحدى وتسعين وستمائة ، وسمع الحديث ، واشتغل بالعلم ، فبرع في علوم متعددة ، لا سيما علم التفسير ، والحديث والأصلين ، ولما عاد الشيخ تقي الدين ابن تيمية من الديار المصرية في سنة اثنتي عشرة وسبعمائة لازمه إلى أن مات الشيخ ، فأخذ عنه علما جما مع ما سلف له من الاشتغال ، فصار فريدا في بابه في فنون كثيرة ، مع كثرة الطلب ليلا ونهارا ، وكثرة الصلاة والابتهال ، وكان حسن القراءة والخلق ، كثير التودد ، لا يحسد أحدا ، ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحد ، وكنت من أصحب الناس له ، وأحب الناس إليه ، ولا أعرف من أهل العلم في زماننا أكثر عبادة منه ، وكانت له طريقة في الصلاة يطيلها جدا ، ويمد ركوعها وسجودها ، ويلومه كثير من أصحابه في بعض الأحيان فلا يرجع ، [ ص: 524 ] ولا ينزع عن ذلك ، رحمه الله ، وله من التصانيف الكبار والصغار شيء كثير ، وكتب بخطه الحسن شيئا كثيرا ، واقتنى من الكتب ما لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف ، وبالجملة كان قليل النظير ، بل عديم النظير في مجموعه ، وأموره ، وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الصالحة ، سامحه الله ورحمه ، وقد كان متصديا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وجرت له بسببها فصول يطول بسطها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره ، وقد كانت جنازته حافلة رحمه الله ، شهدها القضاة ، والأعيان ، والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه ، وكمل له من العمر ستون سنة ، رحمه الله .
وفي يوم الاثنين ثاني عشر شهر شعبان ذكر الدرس بالصدرية شرف الدين عبد الله ابن الشيخ الإمام العلامة شمس الدين بن قيم الجوزية ، عوضا عن أبيه - رحمه الله - فأفاد ، وأجاد ، وسرد طرفا صالحا في فضل العلم وأهله .
ومن العجائب والغرائب التي لم يتفق مثلها ، ولم يقع من نحو مائتي سنة وأكثر ، أنه بطل الوقيد بجامع دمشق في ليلة النصف من شعبان ، فلم يزد في وقيده قنديل واحد على عادة لياليه في سائر السنة ، ولله الحمد والمنة ، وفرح أهل العلم بذلك ، وأهل الديانة ، وشكروا الله تعالى على تبطيل هذه البدعة الشنيعة ، [ ص: 525 ] التي كان يتولد بسببها شرور كثيرة بالبلد ، ولا سيما بالجامع الأموي ، وكان ذلك بمرسوم السلطان الملك الناصر حسن ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون - خلد الله سلطانه ، وشيد أركانه - وكان الساعي في ذلك بالديار المصرية الأمير حسام الدين أبو بكر بن النجيبي - بيض الله وجهه - وقد كان مقيما في هذا الحين بالديار المصرية ، وقد كنت رأيت عنده فتيا عليها خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، والشيخ كمال الدين بن الزملكاني ، وغيرهما في إبطال هذه البدعة ، فأنفذ الله ذلك ، ولله الحمد والمنة ، وقد كانت هذه البدعة قد استقرت بين أظهر الناس من نحو سنة خمسين وأربعمائة ، وإلى زماننا هذا ، وكم سعى فيها من فقيه ، وقاض ، ومفت ، وعالم ، وعابد ، وأمير ، وزاهد ، ونائب سلطنة ، وغيرهم ، ولم ييسر الله ذلك إلا في عامنا هذا ، والمسئول من الله تعالى إطالة عمر هذا السلطان; ليعلم الجهلة الذين استقر في أذهانهم من انه إذا أبطل هذا الوقيد في عام يموت سلطان الوقت ، وكان هذا لا حقيقة له ، ولا دليل عليه إلا مجرد الوهم والخيال .
وفي مستهل شهر رمضان اتفق أمر غريب لم يتفق مثله من مدة متطاولة - فيما يتعلق بالفقهاء والمدارس - وهو أنه كان قد توفي ابن الناصح الحنبلي بالصالحية ، وكان بيده نصف الصاحبية التي للحنابلة بالصالحية ، والنصف الآخر للشيخ شرف الدين ابن القاضي شرف الدين الحنبلي شيخ الحنابلة بدمشق ، [ ص: 526 ] فاستنجز مرسوما بالنصف الآخر ، وكانت بيده ولاية متقدمة من القاضي علاء الدين بن المنجا الحنبلي ، فعارضه في ذلك قاضي القضاة جمال الدين المرداوي الحنبلي ، وولي فيها نائبه القاضي شمس الدين بن مفلح ، ودرس بها في صدر هذا اليوم ، فدخل القضاة الثلاثة الباقون ومعهم الشيخ شرف الدين المذكور إلى نائب السلطنة ، وأنهوا إليه صورة الحال ، فرسم له بالتدريس ، فركب القضاة المذكورون وبعض الحجاب في خدمته إلى المدرسة المذكورة ، واجتمع الفضلاء ، والأعيان ، ودرس الشيخ شرف الدين المذكور ، وبث فضائل كثيرة ، وفرح الناس .
وفي شوال كان في جملة من توجه إلى الحج في هذا العام نائب الديار المصرية ، ومدبر ممالكها الأمير سيف الدين بيبغا الناصري ، ومعه جماعة من الأمراء ، فلما استقل الناس ذاهبين نهض جماعة من الأمراء على أخيه الأمير سيف الدين منجك ، وهو وزير المملكة ، وأستادار الأستادارية ، وهو باب الحوائج في دولتهم ، وإليه يرحل ذوو الحاجات بالذهب والهدايا ، فأمسكوه ، وجاءت البريدية إلى نائب الشام في أواخر هذا الشهر بذلك ، وبعد أيام يسيرة وصل الأمير سيف الدين شيخون - وهو من أكابر الدولة المصرية - تحت الترسيم ، فأدخل إلى قلعة دمشق ، ثم أخذ منها بعد ليلة ، فذهب به إلى الإسكندرية ، فالله أعلم . وجاء البريد بالاحتياط على ديوانه وديوان منجك بالشام ، وأيس من [ ص: 527 ] سلامتهما ، وكذلك وردت الأخبار بمسك بيبغا في أثناء الطريق ، وأرسل سيفه إلى السلطان ، وقدم أمير من الديار المصرية فحلف الأمراء بالطاعة إلى السلطان ، وأكد ذلك ، وسار إلى حلب فحلف من بها من الأمراء ثم عاد إلى دمشق ، ثم عاد راجعا إلى الديار المصرية ، وحصل له من الأموال شيء كثير من النواب والأمراء .
وفي يوم الخميس العشرين من ذي القعدة مسك الأميران الكبيران المقدمان الشاميان ، شهاب الدين أحمد بن صبح ، وملك آص ، من دار السعادة بحضرة نائب السلطنة والأمراء ، ورفعا إلى القلعة المنصورة ، سير بهما ماشيين من دار السعادة إلى باب القلعة من ناحية دار الحديث ، وقيدا وسجنا بها . وجاء الخبر بأن السلطان استوزر بالديار المصرية القاضي علم الدين بن زنبور ، وخلع عليه خلعة سنية لم يسمع بمثلها من أعصار متقادمة ، وباشر ، وخلع على الأمراء والمقدمين ، وكذلك خلع على الأمير سيف الدين طشبغا ، وأعيد إلى مباشرة الدويدارية بالديار المصرية ، وجعل مقدما .
وفي أوائل شهر ذي الحجة اشتهر أن نائب صفد شهاب الدين أحمد ابن مشد الشربخاناه طلب إلى الديار المصرية فامتنع من إجابة الداعي ، ونقض [ ص: 528 ] العهد ، وحصن قلعتها ، وحصل فيها عددا ومددا ، وادخر أشياء كثيرة بسبب الإقامة بها والامتناع فيها ، فجاءت البريدية إلى نائب دمشق بأن يركب هو وجميع جيش دمشق إليه ، فتجهز الجيش لذلك وتأهبوا ، ثم خرجت الأطلاب على راياتها ، فلما برز منها بعض بدا لنائب السلطنة فردهم ، وكان له خبرة عظيمة ، ثم استقر الحال على تجريد أربعة مقدمين بأربعة آلاف إليه .
وفي يوم الخميس ثاني عشره ، وقعت كائنة غريبة بمنى ، وذلك أنه اختلف الأمراء المصريون والشاميون مع صاحب اليمن الملك المجاهد ، فاقتتلوا قتالا شديدا قريبا من وادي محسر ، ثم انجلت الوقعة عن أسر صاحب اليمن المجاهد ، فحمل مقيدا إلى مصر ، كذلك جاءت بها كتب الحجاج ، وهم أخبروا بذلك .
واشتهر في أواخر ذي الحجة أن نائب حلب الأمير سيف الدين أرغون شاه الكاملي قد خرج عنها بمماليكه وأصحابه ، فرام الجيش الحلبي رده فلم يستطيعوا ذلك ، وجرح منهم جراحات كثيرة ، وقتل جماعة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، واستمر ذاهبا ، وكان في أمله - فيما ذكر - أن يتلقى سيف الدين بيبغا في أثناء طريق الحجاز فيقدم معه إلى دمشق ، وإن كان نائب دمشق قد اشتغل في حصار صفد أن يهجم عليها بغتة فيأخذها ، فلما سار بمن معه ، وأخذته القطاع من كل جانب ، ونهبت حواصله ، وبقي تجريدة في نفر يسير من مماليكه ، فاجتاز بحماة ليهربه نائبها فأبى عليه ، فلما اجتاز بحمص وطن نفسه على المسير إلى السلطان بنفسه ، فقدم به نائب حمص وتلقاه بعض الحجاب وبعض مقدمي الألوف ، [ ص: 529 ] ودخل يوم الجمعة بعد الصلاة سابع عشرين الشهر ، وهو في أبهة ، فنزل بدار السعادة في بعض قاعات الدويدارية .