أحمد بن عبد الله بن أحمد ، أبو الحسن الواعظ ، المعروف بابن الران
[ ص: 632 ] صاحب كرامات ومعاملات ، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق وكان يعظ الناس بالزيادة القبلية حيث كان يجلس القصاص . قال ذاك . قال : وصنف كتبا في الوعظ ، وحكى حكايات كثيرة ، قال : سمعت الحافظ ابن عساكر أبا القاسم بن السمرقندي يقول : سمعت أبا طاهر محمد بن أحمد بن أبي صقر يقول : سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله الران الواعظ ينشد أبياتا :
أنا ما أصنع باللذ ات شغلي بالذنوب إنما العيد لمن فا
ز بوصل من حبيب أصبح الناس على رو
ح وريحان وطيب ثم أصبحت على نو
ح وحزن ونحيب فرحوا حين أهلوا
شهرهم بعد المغيب وهلالي متوار
من ورا حجب الغيوب فلهذا يا خليلي
قلت للذات غيبي وجعلت الهم والحز
ن من الدنيا نصيبي يا حياتي ومماتي
وشقائي وطبيبي جد لصب يتلظى
منك بالرحب الرحيب
[ ص: 633 ] الحسين بن محمد الخالع
الشاعر ، له ديوان شعر حسن مليح ، عمر طويلا ، ووفاته في هذه السنة عن سن عالية .
الملك الكبير العادل محمود بن سبكتكين ، أبو القاسم ، الملقب بيمين الدولة وأمين الملة
صاحب بلاد غزنة وما والاها ، وجيشه يقال لهم : السامانية . وكان أبوه قد تملك عليهم ، وتوفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة ، فتملك بعده ولده هذا ، فسار فيهم وفي سائر الرعايا سيرة عادلة ، وقام بأعباء الإسلام قياما تاما ، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها وعظم شأنه في العالمين ، واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه ولله الحمد والمنة .
وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة العباسي القادر بالله وكانت رسل الفاطميين من الديار المصرية تفد إليه بالكتب والهدايا والتحف ، فيحرق بهم ، ويقطع كتبهم ، ويخرق حللهم . وقد اتفق له في بلاد الهند فتوحات لم تتفق لغيره من الملوك ، لا قبله ولا بعده ، وغنم مغانم كثيرة لا تنحصر ولا تنضبط كثرة ، من الذهب واللآلئ والسبي ، وكسر من أصنامهم وأبدادهم [ ص: 634 ] وأوثانهم شيئا كثيرا جدا ، بيض الله وجهه وأكرم مثواه ، وقد ذكرنا ذلك مفصلا فيما سلف مفرقا في السنين ، كان في جملة ما كسر من أصنامهم بد عظيم لليهود يقال له : سومنات . بلغ ما تحصل منه من الذهب عشرين ألف ألف دينار ، وكسر ملك الهند الكبير الذي يقال له : جيبال . وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له : إيلك خان . وأباد ملك السامانية ، وقد ملكوا بخراسان مائة سنة بلاد سمرقند وما حولها ، ثم هلكوا ، وبنى على جيحون جسرا غرم عليه ألفي ألف دينار ، وهذا شيء لم يتفق لغيره من الملوك ، وكان معه في جيشه أربعمائة فيل تقاتل ، وهذه عظيمة هائلة ومرتبة طائلة ، وجرت له فصول ذكر تفصيلها يطول .
وكان في غاية الديانة والصيانة يحب العلماء والمحدثين ، ويكرمهم ، ويجالسهم ، ويحسن إليهم ، وكان حنفي المذهب ، ثم صار شافعيا على يدي أبي بكر القفال الصغير ، على ما ذكره إمام الحرمين وغيره ، وكان كراميا على اعتقادهم ، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم ، وتناظر هو بين يدي وأبو بكر بن فورك الملك محمود بن سبكتكين في مسألة العرش مناظرة طويلة ، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له ، فمال السلطان محمود بن سبكتكين إلى قول ابن الهيضم ، ونقم على كلامه ، وأمر بطرده وإخراجه ; لموافقته لرأي ابن فورك الجهمية .
وكانت معدلته جيدة ; اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه وعلى أهله في كل وقت ، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته ، وقد حار في أمره ، وكلما اشتكاه إلى أحد من أولي الأمر لا يتجاسر على إقامة الحد عليه ; يهابون الملك . فقال له الملك : ويحك ! متى جاءك فائتني فأعلمني ، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلي ، ولو كان في الليل . وتقدم إلى الحجبة [ ص: 635 ] أن هذا لا يمنعه أحد متى جاء من ليل أو نهار . فذهب الرجل مسرورا ، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه واختلى بأهله ، فذهب باكيا إلى دار الملك ، فقيل له : إن الملك نائم . فقال : قد تقدم إليكم بما سمعتم ، فأنبهوا الملك ، فخرج معه بنفسه وحده ، وجاء منزل ذلك الرجل ، فنظر إلى الغلام وهو نائم مع المرأة في فراش الرجل ، وعندهما شمعة تقد ، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ، ثم جاء فاحتز رأس الغلام ، وقال للرجل : ويحك ! ألحقني بشربة من ماء ، فسقاه ، ثم انطلق ليذهب ، فقال له الرجل : سألتك بالله لم أطفأت الشمعة ؟ فقال : ويحك ! إنه ابن أختي ، وكرهت أن أشاهده حال الذبح . قال : ولم طلبت الماء سريعا ؟ فقال : إني كنت آليت منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أقوم بحقك ، فكنت عطشان هذه الأيام ، حتى كان ما رأيت . فدعا له ، وانصرف ، رحمه الله .
وكان مرضه سوء مزاج اعتراه وانطلاق البطن سنتين ، فكان فيهما لا يضطجع على فراش ، ولا يتكئ على شيء لقوة بأسه ، بل كان يستند إلى مخاد توضع له ، ويحضر مجلس ملكه ، ويفصل بين الناس على عادته ، حتى مات وهو كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة ، عن ثلاث وستين سنة ، ملك منها ثلاثا وثلاثين سنة ، وخلف من الأموال شيئا كثيرا ، من ذلك سبعون رطلا من جوهر ، سامحه الله تعالى .
وقام بالأمر من بعده ولده محمد ، ثم صار الملك إلى ابنه الآخر مسعود بن محمود ، فأشبه أباه ، وقد صنف بعض العلماء مجلدا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه ، فأفاد .