[ ص: 628 ] ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة
لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل ، الكبير المثاغر ، المرابط المؤيد ، المنصور المجاهد ، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين ، صاحب بلاد غزنة وتلك الممالك الكبار ، وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا ، وكاسر بدودهم وأوثانهم كسرا ، وقاهر هنودهم وسلطانهم الأعظم قهرا ، وقد تمرض نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش ولا توسد وسادا ، بل كان ينام قاعدا حتى مات كذلك ، وذلك لشهامته وصرامته وقوة عزمه ، وله من العمر ستون سنة ، رحمه الله ، وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد ، فلم يتم أمره حتى غافصه أخوه مسعود بن محمود ، فاستحوذ على ممالك أبيه ، مع ما كان إليه مما يليه وفتحه هو بنفسه من بلاد الكفار ; من الرساتيق الكبار والصغار ، فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي في أواخر هذا العام ، وجاءته الرسل من كل ناحية ومن كل ملك همام ، بالتحية والسلام والإكرام ، وستأتي ترجمة الملك محمود في الوفيات .
وفيها استحوذت السرية التي كان بعثها الملك محمود إلى بلاد الهند على [ ص: 629 ] أكبر مدائنهم وهي المسماة نرسى ، دخلوها في نحو مائة ألف مقاتل ، ما بين فارس وراجل ، فنهبوا سوق العطر والجواهر بها نهارا كاملا ، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلئ واليواقيت ، ومع هذا لم يدر أكثر أهلها بشيء من ذلك لاتساعها ، وذلك أنها كانت في غاية الكبر ، طولها مسيرة منزلة من منازل الهند ، وعرضها كذلك ، وأخذ من الأموال والتحف ما لا يحد ولا يوصف ، حتى قيل : إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل . ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة ، لا قبل هذه السنة ولا بعدها .
وفيها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء ، وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء ، من تعليق المسوح ، وتغليق الأسواق ، والنوح والبكاء ، في الأزقة والأرجاء ، فأقبل إليهم أهل السنة في الحديد ، واقتتلوا قتالا شديدا ، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة ، وجرت فتن كبيرة ، وشرور مستطيرة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفي هذه السنة مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله بمحضر من القضاة والوزراء والأمراء والكبراء ، وخطب له بذلك على المنابر ، وضرب اسمه على السكة المتعامل بها في البادي والحاضر .
وفيها أقبل ملك الروم من قسطنطينية في ثلاثمائة ألف مقاتل ، فسار حتى [ ص: 630 ] بلغ بلاد حلب وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس ، فنزلوا على مسيرة يوم منها ، ومن عزم ملك الروم - قبحه الله - أن يستحوذ على بلاد الشام بكمالها ، وأن يستردها إلى ما كانت عليه في أيديهم قبل الإسلام ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده وقيصر هو من ملك الشام مع بلاد الروم ، فلا سبيل لملك الروم إلى هذا الروم الذي أراده هذا المذموم ، فلما نزل بجيشه قريبا من حلب كما ذكرنا ، أرسل الله عليهم عطشا شديدا ، وخالف بين كلمتهم ; وذلك أنه كان معه الدمستق ، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل بالأمر من بعده ، ففهم ذلك ملك الروم ، فكر من فوره راجعا ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا [ الأحزاب : 25 ] ولما كروا راجعين إلى بلادهم ، اتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلا ونهارا وصباحا ومساء ، وهلك أكثر الروم جوعا وعطشا ، ونهبهم الأعراب من كل جانب . ولله الحمد والمنة .
وفيها ملك جلال الدولة واسطا واستناب ولده عليها ، وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ، ففتح البطائح وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب ، فهزمهم لأبي كاليجار البصريون ، فسار إليهم جلال الدولة بنفسه ، فدخلها في شعبان هذه السنة ، ودقت البشائر فرحا ببغداد ; فرحا بنصره .
وفيها جاء سيل عظيم بغزنة ، فأهلك شيئا كثيرا من الزروع والأشجار .
وفي رمضان منها تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف [ ص: 631 ] درهم وأجرى أرزاقا للفقهاء والعلماء ببلاده ، على عادة أبيه من قبله ، وفتح بلدانا كثيرة ، واتسعت ممالكه جدا ، وعظم شأنه وقويت أركانه ، وكثرت جنوده وأعوانه .
وفيها دخل خلق كثير من الأكراد إلى بغداد يسرقون خيل الأتراك ليلا ، فتحصن الناس منهم ، وحصنوا خيولهم حتى خيل السلطان .
وفيها سقط جسر ببغداد ، وهو الذي عند الزياتين على نهر عيسى .
وفيها وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة وبين الهاشميين ، فرفعوا المصاحف ، ورمتهم الأتراك بالنشاب ، وجرت خبطة عظيمة ، ثم اصطلحت الحال بين الفريقين .
وفيها كثرت العملات ببغداد ، وأخذت الدور جهرة ، وكثر العيارون ولصوص الأكراد .
وفيها تعطل الحج أيضا من بلاد العراق وخراسان لفساد البلاد ، ولم يحج أحد سوى سرية من أهل العراق ; ركبوا من جمال البادية مع الأعراب مخاطرة ، ففازوا بالحج ، والله أعلم .