في المحرم منها توفي الأمير عمران بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة ، تغلب عليها ، وعجز عنه الأمراء والملوك والخلفاء ، وبعثت إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة ، فكل ذلك يفلها ويكسرها ، وكل ما له في تمكن وقوة ، ومكث كذلك هذه المدة كلها ، ومع هذا كله مات على فراشه حتف أنفه - فلا نامت أعين الجبناء - وقام بالأمر من بعده ولده الحسن ، فرام عضد الدولة أن ينتزع الملك من يده ، فأرسل إليه سرية فيها خلق من الجنود ، فكسرهم الحسن بن عمران بن شاهين وردهم خائبين ، وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة ، فصالحه على مال يرسله إليه كل سنة ، وأخذوها من عضد الدولة ، وهذا من العجائب الغريبة .
وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسين بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين ، واتهم بأنه يفشي الأسرار ، وأن عز الدولة أودع عنده عقدا ثمينا ، وأتي بكتاب أنه خطه في إفشاء الأسرار ، فأنكر أنه خطه ، وكان مزورا عليه ، [ ص: 397 ] واعترف بالعقد ، فأخذ منه ، وعزل عن النقابة ، وولي غيره فيها ، وكان مظلوما في ذلك .
وفي هذا الشهر أيضا عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف ، وولى غيره .
وفي شعبان ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة ، فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية ، ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر ، وأن يزيد في ألقابه تاج الدولة ، فأجابه إلى ذلك كله ، فخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن من تقبيل الأرض من كثرتها ، وفوض إليه ما وراء داره من الأمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وحضر ذلك الرؤساء والأمراء وأعيان الناس ، وكان يوما مشهودا .
وأرسل في رمضان إلى الذعار من الأعراب من بني شيبان وغيرهم ، فعقرهم وكسرهم وقهرهم ، وكان أميرهم ضبة بن محمد الأسدي متحصنا بعين التمر نيفا وثلاثين سنة ، فأخذت ديارهم ، وأخذت أموالهم ، وحالت أحوالهم ، ولله الحمد والمنة .
وفي يوم الثلاثاء لتسع بقين من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى ، وعقد العقد بحضرة الأعيان والرؤساء ، وكان عقدا هائلا حافلا ، على صداق مبلغه مائة ألف دينار ، ويقال : مائتا ألف دينار ، وكان وكيل عضد الدولة الشيخ أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي ، صاحب [ ص: 398 ] " الإيضاح والتكملة " ، وكان الذي خطب خطبة العقد القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي ، وكان يوما مشهودا .
وفيها كان مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان بالشام ، قريبا من نوى وأعمالها ، وكانت معه أخته جميلة وزوجته بنت عمه سيف الدولة ، فردتا إلى ابن عمه سعد الدولة بن سيف الدولة صاحب حلب .
قال : وفيها جدد ابن الأثير عضد الدولة عمارة بغداد ومحاسنها ، وجدد المساجد والمشاهد ، وأجرى على الفقهاء والأئمة الأرزاق والجرايات ، من الفقهاء والمحدثين والأطباء والحساب وغيرهم ، وأطلق الصلات لأرباب البيوتات والشرف ، وألزم أصحاب الأملاك ببغداد بعمارة بيوتهم ودورهم ، ومهد الطرقات ، وأطلق المكوس ، وأصلح طريق الحجاج من بغداد إلى مكة وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين ، قال : فأذن لوزيره نصر بن هارون - وكان نصرانيا - بعمارة البيع والديرة ، وإطلاق الأموال لفقرائهم .
وفيها توفي حسنويه بن الحسين الكردي ، وكان قد استحوذ على نواحي بلاد الدينور وهمذان ونهاوند مدة خمسين سنة ، وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما ، فلما توفي اختلف أولاده من بعده ، وتمزق شملهم ، وتمكن عضد الدولة من أكثر بلاده ، وقويت شوكته في الأرض .
وفي هذه السنة ركب عضد الدولة في جيوش كثيفة إلى بلاد أخيه فخر [ ص: 399 ] الدولة ، وذلك لما كان بلغه من ممالآت عز الدولة واتفاقهما عليه ، فلما تفرغ من أعدائه ، ركب ، فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة ; همذان والري وما بينهما من البلاد ، وسلم ذلك إلى أخيه مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة ; ليكون نائبه عليها ، ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي ، فتسلم بلاده وأخذ حواصله وذخائره ، وكانت جليلة كثيرة جدا ، وحبس بعض أولاده ، وأمر بعضهم ، وأرسل إلى الأكراد الهكارية ، فأخذ منهم بعض بلادهم ، وعظم شأن عضد الدولة وارتفع صيته وذكره إلا أنه أصابه في هذه السفرة داء الصرع ، وقد كان تقدم له مثله في الموصل فكان يكتمه ، ولكنه غلب به كثرة النسيان ، فلا يذكر الشيء إلا بعد جهد جهيد ، والدنيا لا تسر بقدر ما تضر :
دار إذا ما أضحكت في يومها أبكت غدا بعدا لها من دار