في صفر منها كان قدوم من علي بن عيسى بن الوزير دمشق إلى بغداد وقد تلقاه الناس إلى أثناء الطريق ، فمنهم من لقيه إلى الأنبار ومنهم دون ذلك . وحين دخل إلى الخليفة المقتدر خاطبه الخليفة فأحسن مخاطبته ، ثم انصرف إلى منزله ، فبعث وراءه بالفرش والقماش وعشرين ألف دينار ، واستدعاه من الغد ، فخلع عليه ، فأنشد وهو في الخلعة :
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
[ ص: 25 ] ولما تجهز مؤنس للمسير جاءه بعض الخدم ، فأعلمه بأن الخليفة يريد أن يقبض عليه إذا دخل لوداعه ، وقد حفرت له زبية في دار الخلافة مغطاة ; ليتردى فيها ، فأحجم عن الذهاب ، وجاءت الأمراء إليه من كل جانب ليكونوا معه على الخليفة ، فبعث إليه المقتدر رقعة بخطه يحلف له فيها أن هذا الأمر الذي بلغه ليس بصحيح ، فطابت نفسه ، وركب إلى دار الخلافة في غلمان قلائل ، فلما دخل على الخليفة خاطبه مخاطبة عظيمة ، وحلف له أنه طيب القلب عليه ، وله عنده الصفاء الذي يعرفه ، وخرج من بين يديه معظما مكرما ، وركب أبو العباس بن المقتدر ، والوزير علي بن عيسى ونصر الحاجب في خدمته لتوديعه ، وكبار الأمراء بين يديه مثل الحجبة ، وكان خروجه يوما مشهودا ، قاصدا بلاد الثغور لقتال الروم .
وفي جمادى الأولى قبض على ; لأنه ادعى أنه يعرف العطف والتنجيم ، فقصده النساء لذلك ، فإذا انفرد بالمرأة قام إليها ، فخنقها بوتر ، وأعانته امرأته على ذلك ، ثم حفر لها في داره فدفنها ، فإذا امتلأت تلك الدار انتقل عنها إلى غيرها . ولما ظهر عليه وجد في داره سبع عشرة امرأة قد خنقهن ، ثم تتبعت الدور التي سكنها ، فوجدوا شيئا كثيرا قد قتل من النساء ، فضرب ألف سوط ، ثم صلب حيا حتى مات ، قبحه الله . رجل خناق ، قد قتل خلقا من النساء
وفي هذه السنة كان ظهور الديلم ببلاد الري فكان فيهم ملك غلب على أمرهم ، يقال له : مرداويج ، يجلس على سرير من ذهب وبين يديه سرير من [ ص: 26 ] فضة ، ويقول : أنا سليمان بن داود . وقد سار في أهل الري وقزوين وأصبهان سيرة قبيحة جدا ، فكان يقتل النساء والصبيان في المهود ، ويأخذ أموال الناس ، وهو في غاية الجبروت والشدة والجرأة على محارم الله ، عز وجل ، فقتله الأتراك ، وأراح الله المسلمين من شره ، ولله الحمد والمنة .
وفي هذه السنة كانت يوسف بن أبي الساج وبين أبي طاهر القرمطي عند وقعة عظيمة بين الكوفة ; سبقه إليها أبو طاهر ، فحال بينه وبينها ، فكتب إليه يوسف بن أبي الساج : اسمع وأطع ، وإلا فاستعد للقتال يوم السبت تاسع شوال من هذه السنة . فقال : هلم . فلما تراءى الجمعان ، استقل يوسف بن أبي الساج ، وكان معه عشرون ألفا جيش القرمطي ، وكان معه ألف فارس وخمسمائة راجل ، فقال : وما قيمة هؤلاء الكلاب ؟ وأمر الكاتب أن يكتب بالفتح قبل اللقاء إلى الخليفة ، فلما اقتتلوا ثبتت القرامطة ثباتا عظيما ، ونزل أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي ، لعنه الله ، فحرض أصحابه ، وحمل بهم حملة صادقة ، فهزموا جند الخليفة ، وأسروا يوسف بن أبي الساج وقتلوا خلقا كثيرا من جند الخليفة ، واستحوذ على الكوفة وجاءت الأخبار بذلك إلى بغداد وشاع بين الناس أن القرمطي يريد أن يقصد بغداد ليأخذها ، فانزعج المسلمون لذلك ، وظنوا صدقه ، فاجتمع الوزير بالخليفة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن الأموال إنما تدخر لتكون عونا على قتال أعداء الله ، وإن هذا الأمر لم يقع بعد زمن الصحابة أفظع منه ، قد قطع هذا الكافر طريق الحج على الناس ، وفتك في المسلمين مرة بعد مرة ، وإن بيت المال ليس فيه شيء ، فاتق الله يا أمير المؤمنين ، وخاطب السيدة - يعني أمه - فإن كان عندها مال قد ادخرته لشدة ، فهذا وقته ، فدخل على أمه فكانت هي التي ابتدأته بذلك ، وبذلت له خمسمائة ألف [ ص: 27 ] دينار ، وكان في بيت المال مثلها فسلمها الخليفة إلى الوزير ليصرفها في تنفيذ الجيوش نحو القرامطة ، فجهز الوزير جيشا ; أربعين ألفا مع أمير ، يقال له : يلبق ، فأخذوا عليه الطرقات وكان يريد دخول بغداد ثم التقوا معه ، فلم يلبث جيش الخليفة أن انهزم ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . وكان يوسف بن أبي الساج معهم مقيدا في خيمة ، فجعل ينظر إلى محل الوقعة ، فلما رجع القرمطي قال : أردت أن تهرب ؟! ثم أمر به فضربت عنقه ، ورجع القرمطي من ناحية بغداد إلى الأنبار ثم انصرف إلى هيت فأكثر أهل بغداد الصدقة ، وكذلك الخليفة وأمه والوزير ; شكرا لله عز وجل على صرفه عنهم هذا الخبيث ، ولله الحمد والمنة .
وفي هذه السنة بعث المهدي المدعي أنه فاطمي - الذي ظهر ببلاد المغرب - ولده أبا القاسم في جيش ، فانهزم جيشه ، وقتل من أصحابه خلق كثير .
واختطت في هذه السنة المدينة المحمدية .
وفيها حاصر مدينة عبد الرحمن بن الداخل الأموي طليطلة وكانوا مسلمين ، لكنهم نقضوا ما كانوا عاهدوه عليه ، ففتحها قهرا ، وقتل خلقا من أهلها .